حكاية الأرض للسماء: "مليتا" .. حلم عماد مغنية ـ مصور

منهال الأمين
15 تموز/يوليو 2011
هنا مليتا. كل شيء يدلّ عليهم. لكل منا زائرًا هذا الثغر، تصوره عن الرجال الذين أقاموا هنا. في هذه المغارة، أو في تلك الدشمة . على هذا المدفع أو ذاك الرشاش. كيف كانوا حين كان يسقط شهيد او جريح منهم؟ كان استثنائيًا التعامل مع الموت في تلك النواحي. آلاف المقاتلين مرّوا من هنا، لم يكونوا مجرد شهود، بل صناعاً حقيقيين لحقبة ذهبية في تاريخ لبنان. إنه أكثر من مَعلم سياحي ـ جهادي، إنه نداء للأجيال القادمة، كي لا تسقط في معركة "كيّ الوعي".‏
"لا يمكن أن أشرح لكم كم هو صعب حمل "مطرة" مياه، سعة 20 ليتراً، صعوداً شاقاً للوصول إلى نقطة الرادار في جبل صافي. ولكن ماذا عن حمل صاروخ كاتيوشا أو رشاش من نوع "دوشكا"، أو غيرها من مستلزمات عسكرية أو لوجستية أو مواد غذائية أو قارورة غاز أو... أو... واللائحة تطول؟". هكذا افتتح السيّد "موعظة صباحية" في "البولمان" على المشاركين في رحلة من تنظيم مركز الإمام الخميني الثقافي إلى "مَعلم مليتا السياحي والجهادي"، ليوضح أنه ورفيقيه بنتيجة التعب والعطش شربوا نصف كمية المياه التي حملوها على ظهورهم وصولاً إلى جبل صافي. الرجل سبق له أن حضر إلى المكان مرات عدة، مرابطاً، قبل التحرير، أي في سنوات الاشتباك المباشر للمقاومة مع العدو الإسرائيلي في هذه المنطقة.‏
في الرحلة عدد من الأساتذة الجامعيين. بعضهم لقربه من المقاومة، سبق له أن رابط هنا لأسبوع أو أسبوعين. يستطيع هؤلاء أن يفهموا كلام الرجل الراوي جيداً. هزة رؤوسهم توحي بتحسر على تلك الأيام. يضيف السيد "كان كل شيء بدائياً إلى أبعد الحدود"، واصفاً طريقة عمل المقاومة منتصف الثمانينات: "لك أن تتخيل ـ يقول ـ كيف كان المقاومون ينحتون الصخر بالأزميل، قاصدين بذلك إنشاء نفق، أو مغارة اصطناعية تؤويهم، وتكون لهم ملجأ من القصف المدفعي وغارات الطيران، ولم يكونوا يظنون ولو في أحلامهم أن يتمكنوا يوماً من الحفر بأدوات متطورة". أحد هذه الأزاميل لا زال عالقاً في سقف إحدى المغارات بعد أن "عصيَ" على صاحبه فتركه للذكرى. وبدل المغارة، صار اليوم هناك عدد غير محصور من المغارات، بأحجام ومساحات مختلفة، تضم الواحدة منها غرفاً للمنامة ومطبخاً وحمامات وغرف عمليات.‏
"كل شيء على حاله باستثناء الإضاءة فإنها جديدة" يشير الدليل السياحي العسكري في مليتا، قبل الدخول في "المسار" الممتد لحوالي 650 متراً، وهو عبارة عن الطريق الذي كان يسلكه المقاوم في مهماته القتالية، سواء في الدوريات التي كانت تقترب من مناطق العدو، لنصب الكمائن المتقدمة تحسباً لأية تحركات عسكرية معادية، أو للاحتماء من القصف والتمشيط، أو لتنفيذ الانتشارات الصباحية، خصوصاً إذا كان هناك تحليق طائرات مروحية أو حربية صهيونية. وفي المسار قبل الوصول إلى النفق، يطلعنا الدليل الملمّ -على ما يبدو- بكل تفاصيل المكان والزمان والمهمات القتالية في ذلك الوقت، على محطات أساسية رافقت عمل المقاومة، فهنا مثلاً جناح الإسعاف الحربي‏. ثم يستوقف الوفد ليدلهم على "نبع الميرندا". "هنا وفي هذا المكان المقطوع؟". يبدد الاستغراب حين يشرح أن المياه الجارية - وهي كثيرة في المنطقة - كانت تصل للمقاومين عبر جرف ترابي، مصبوغة باللون البرتقالي "ولكنها في ذروة التعب أحلى من ألف ميرندا". يقول دليلنا السياحي ويشرح كيف كان المقاومون أثناء الحصار، إذا ما حصلوا على بعض المياه الملوّثة، يعمدون إلى اسفنجة لتصفيتها من الترسبات ومن ثم يشربونها "هنيئاً مريئاً". كذلك يستوقفنا أمام معالم يشدد على "أهميتها في مسيرة المقاومة": دشمة السيد عباس الموسوي، التي كان يقضي فيها الأمين العام السابق لحزب الله أوقاتاً طويلة، ويُسمع صوته ليلاً وهو يتهجد بالدعاء والصلاة. في الدشمة سجادة صلاة وسبحة ومصحف وقطعة سلاح وكتب للدعاء "سلاح المؤمن قبل أي سلاح"، إضافة إلى هاتف عسكري "إشارة البقاء على جهوزية دائمة" ومسجلة تكرر بث "دعاء الحزين". كذلك استحدث منشئو المعلم دشمة للشيخ راغب حرب، الذي يعد أحد مؤسسي العمل المقاوم في الجنوب من خلال التحركات الشعبية التي قادها ضد الاحتلال حتى اغتياله في 16 شباط 1984. أما "دشمة سجد" ففيها "دوشكا" موجهة بشكل دقيق إلى موقع سجد، ويتناوب المقاومون على الجهوزية فيها "فإذا ما أطل جندي برأسه، أو لاحت لهم حركة ما، يطلقون باتجاه الموقع رشقاً أو ربما طلقة بحسب مهارة الرامي" كما يشرح السيد.‏
أما في إحدى الزوايا فتلفتنا بقعة لا تتعدى مساحتها المتر المربع الواحد، مسيجة بأعمدة ذات رؤوس كروية، ومفروشة بالورود الحمراء "تحية لروح احد الشهداء الذين سقطوا في هذا المكان تماماً" يقول الدليل ويوضح أنه لم يُذكر اسم الشهيد لأن المراد بالنصب هو التذكير بتضحيات المئات ممن سقطوا هنا وهناك.‏
ثم ننتقل إلى محطات عدة يُعرض فيها جزء من عتاد المقاومة وأسلحتها، التي كانت تجابه بها العدو: مضاد للطيران طراز 14,5، صاروخ غراد إفرادي، صاروخ رعد المنضم حديثاً إلى العائلة الصاروخية، ودراجة نارية كان المقاومون يستخدمونها لتأمين "الدعم"، والتنقل بين النقاط. هنا يعترض السيد على عدم وجود أي ذكر للبغلة التي كانت الملاذ الأخير للمقاومين في الأوقات العصيبة. وكانت طبعاً تتنقل بدون سائس، حاملة عتاداً وأسلحة وموادًا غذائية، من نقطة إلى أخرى، صعوداً وهبوطاً، إلى أن باغتتها قذيفة إسرائيلية فقتلتها. مجسمات كثيرة انتشرت هنا وهناك. العين التي قاومت المخرز. آلية التسديد: فُرْضة ـ شُعيرة ـ هدف "والهدف هم كل أعداء المقاومة أينما وجدوا". ولـ"قائد الانتصارين"، عماد مغنية، نصيب كبير "فبفعل جهاده تحطمت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر" يقول الدليل. وينقل أن والدة الشهيد زارت الموقع قبل أيام، وذكرت أنها زارت مرة "بانوراما حرب تشرين" في دمشق، وأعجبتها كثيراً، وحين التقت بولدها رجته أن تعمد المقاومة لصنع شيء مماثل للبانوراما "لحفظ ذاكرة المقاومة وتوثيق تضحياتها"، فأخبرها أن هذا حلم يراوده، ويسعى جاهداً لتحقيقه "لذا فمليتا هي حلم الحاج رضوان ونأمل أن نكون وفقنا في الاقتراب من تحقيقه ولو جزئياً". هكذا ختم الدليل تجواله بنا في المعلم راوياً "حكاية الأرض للسماء"، فيما التمني "أن تجد الحكاية صدى في قلوب أهل الأرض" يردد السيد وهو يشد على يدي الدليل شاكراً ومودعاً.‏
هيكل الجيش الإسرائيلي
حمل افتتاح معلَم مليتا السياحي للجمهور، إضافة إلى كشف جزء مهم من البنية التحتية للمقاومة، "مفاجأة أمنية"، ففي المتحف الحربي، حيث تُعرض غنائم حصلت عليها المقاومة خلال مواجهات أو عمليات اقتحام، موضبة في إطارات زجاجية خاصة، استوقف الدليل الحضور مطوّلاً أمام لوحة جلدية متدلية على إحدى جدران القاعة، وعنوانها "جيش العدو الإسرائيلي، الهيكل والتشكيلات"، متحدّثاً عن "صدمة" أحدثها مضمون اللوحة في الداخل الإسرائيلي، حيث شغلت وسائل إعلام العدو بالحديث عن "هذا الإنجاز المهم استخباراتياً لحزب الله". ووضع المحلّلون الإسرائيليّون علامات استفهام كبيرة حول كيفية حصول الحزب على معلومات دقيقة بهذا الحجم والنوع "عن تفاصيل التفاصيل حول تقسيمات الجيش الإسرائيلي".‏


المصدر: موقع جريدة الانتقاد الالكترونية

بإشراف الجمعية اللبنانية للسياحة والتراث

All rights are preserved ©جميع الحقوق محفوظة 2013