دينا وبتول وعصفور الكناري (1)

بقلم: ذيب محمد هاشم
دغدغت الشمس أوراق الزهور الغافية عند أكتاف الربى..
وجلست عند منبثق الفجر فراشتان تتناغيان وتناجيان هينمة الصبا وأهداب الحقول ...
قالت أولاهما:
"حدّيثيني يا أخت عن بتول .. ورنّمي لي أغنية الكناري التي غناها لدينا قبل رحيل القمر...".
قالت الفراشة الثانية وهي تومئ بجناحيها للمدى الرحيب:
- "أيتها الريح الخافقة كالروح بين حنايا الشجر.. لا تحطّمي جلال السكون، وأنصتي لجدول العبرات المنساب من بين ثنايا الحكايات الموجعة ...
بالأمس يا أخت كانت بين هاتيك الطلول تنام العائلة...
بالأمس سارت فوق هاتيك البيادر طفلتان...
بالأمس كان الحب يسكن بين أفواف الأقحوان النابت عند أقدام النوافذ المشرعة...
بالأمس ذابت شموع أربع، وتراقصت صور البراءة عند أعتاب العمر الطفولي الحالم بالورود، وتطلعت حدقتا دينا ساهمتين إلى الأفق البعيد.. وتنسّمت عبق الرياحين المضمّخة بالندى...
بالأمس في عيد مولدها الرابع، أهدتها الوالدة عصفور كناري.. وقبلة...
قالت لها: "أطعميه يا دينا حب السنابل، واسكبي في روحه حب القلوب"...
ومشت دينا والكناري بين أحضان الحدائق والسواقي وسارت خلفهما بتول..
وصار للعصفور الوادع مع الأختين حكاية ...
وصار العصفور مستودع أسرار الطفولة الهانئة.. أطعمتاه من كفّ الطهارة بذور الفرح.. وروته أيديهما من دمع الغمام، ونام على أكتافهما في هدأة الأصيل بين شعاف الروابي والهضاب.. فغنّى لهما ما أسبغته يد الخالق على أنفاسه من طيب الغناء, ورجّعت أكناف الأودية صدى نشيده سحراً لا يرد ..
وصار لا يغفو أول الليل إلا على حكايات دينا وبتول..
وأضحتا لا تصحوان آخر الليل إلاّ على ترانيمه الموشاة بنسمات الصباح الحانية...
نفضت الفراشة الثانية جناحيها وقالت:
"حدثيني يا أخيّة عن يوم الوداع .. وكيف آلت إلى الفراق تلك الصحبة الحالمة...".
قالت الفراشة الأولى:
"في ذلك اليوم الربيعي المفعم بعبير الأرض حدثّت بتول والدتها أنها رأت ما يشبه الرؤيا, وعند منبلج الفجر الصادق, أسراب الملائكة بالثياب البيضاء تحوم حول سريرها.. ثم راحت تنثر حول مراقد النائمين عطراً ساحراً وتنشر من أجنحتها أطيافاً رائعة..
شاهدت شموع الميلاد تبكي.. قالت بتول إنها لم تفهم لماذا تبكي الشموع؟.. وكان عصفور الكناري يحدق بالملائكة.. وراح ينشد ألحاناً مزج فيها كل ألوان الفرح وكل ألوان النحيب.. فاستحالت ألحانه دماء أرجوانية قانية، وسالت دفّاقة وامتزجت بأطياف من الملائكة وعبرات الشموع.
وفي ذلك اليوم, أكملت دينا وبتول تحت أنظار الفراشات رحلتهما الأخيرة..
ونهلتا حتى الارتواء من رحيق الزهور.. وغنّتا للحرية والحياة, فطربت عصافير المروج وأوراق الشجر.. وعند الغروب قبّلتا فيما يشبه الوداع آخر شعاع نور منسدل من جبين الشمس الآفلة...
وحينما مدّ الليل وشاحه وهجعت العائلة.. أحسّت دينا ببرودة النسمات المنسلة من خلال الدوالي المعلقة فوق النافذة.. فقامت تحتضن عصفور الكناري, أضجعته إلى جانبها ودثّرته بردائها وصارت تمسح ريشه بأناملها الطرية الدافئة, وحدّثته عن الربيع القادم, وأرجوحة العيد, ومريول المدرسة, ودفتر الرسم وعلبة التلوين.. ووعدته بأن ترسم له عشاً يعانق الريح فوق أغصان شجرة الخرّوب الجاثمة عند كتف المنحدر.. فـأطبق الكناري أجفانه الناعسة, وفك قيود الرؤيا بعد أن أخذته هدأة النفس وغفوة الطمأنينة, وراح يحلم بالصباح...
بيد أن الصباح لم يأت أبداً في ذلك اليوم.. لقد كان يوماً بلا صباح .. وظلام الليل كان حالكاً بلا نهاية...
ولم ير عصفور الكناري يومها ضياء الشمس ولم يلوّح ريشه الناعم دفء سنانها..
ولكنه أحس بالغبار يملأ كل المكان. وكانت الرعود تهدر بما يوقر الآذان. ورأى لهيباً عامراً يلتهم كل شيء.. وراحت الجدران تتهاوى فوق أجساد النائمين.. وأتت النيران برعبها وهولها على سرير دينا وبتول وعلى مرقد الوالدين...
وأمست العائلة فيما يشبه الحلم أمام مرأى العصفور الحزين شموعاً أربعاً, راحت تذوب ألماً ودموعاً ودماءً...
واختلطت أمام ناظري العصفور الحائر صور الحزن والفرح ...
بالأمس أطفأت دينا في عيد ميلادها شموعاً أربعاً.. فمن يطفئ شمعتها اليوم وهي تؤذن بالرحيل؟..
قالت بتول بصوت خافت: "ها أنذا أحترق يا أماه شعلة على مذبح وطني الغائب وأهلي الغافلين.. فضميني إلى صدرك الحاني، واخمدي بعطفك لهيب آلامي، وضمدي جراحي النازفة، فأنا لا زلت أرغب بالحياة"..
ومدت دينا ما تبقى من أصابع يدها الواهنة إلى كفّي أمها وطبعت عليهما من شفتيها المغبرتين قبلة رجاء وتوسل، وصاحت: "ها أنذا طفلتك الصغيرة المدلّلة يا أماه.. أطلب منك قبل أن أمضي لمسة حنان أخيرة.. فلطالما كانت لمساتك يا أماه ملجأ طفلتيك الهاربتين من دجى الليل وخوفه، فما بال أناملك اليوم مثخنة تملؤها الجراح.. وما بال يديك مسبلتان لا تمتدان لتمسحي عن وجهي غبار السفر؟؟..".
فلما سمع الوالد من خلف الأوجاع ودفق النجيع صراخ الطفلتين وأحسّ بصمت الوالدة، ناداهما بما بقي في عروقه من صبابة الروح: "آه يا دينا.. آه يا بتول.. تعالا يا صغيرتيّ وأطفئا لهيبكما في جسدي الفاني، وارتشفا ما بقي في حناياه من عمر الشباب.. وخذا من عيني انسانيهما.. حدقة لدينا.. وثانية لبتول.. وأكملا بهما دربكما الطويلة وافرشاها برمش أهدابي والزهور.. أيتها العروسان ما آن لثوبي زفافكما أن يعفّرا بالتراب.. وما آن لكما أيتها الوردتان أن تفتقدكما الحديقة"...
ثم أسبل الوالد جفنيه.. وداعب شبح النعاس مآقي الطفلتين.. وخيّمت رهبة السكون على أطلال المكان.. وما عاد يقطعه سوى الفحيح المنبعث من ثعابين اللهب...
قبع العصفور بجناحه الكسير فوق علبة التلوين المحطّمة.. وأراد أن يطلق من حنجرته نداء استغاثة.. ولكن دفق الدموع كان أقوى من زقزقة الحناجر.. فأسلم نفسه للبكاء.. وما لبث أن استشعر جفاف المآقي فاعتصر من بقاياها دمعتين أهداهما لرفيقتي دربه.. ودمعتين للوالدين..
وحينما رفعت فوق الأكفّ النعوش الأربعة.. نسي الناس عصفور الكناري وحيداً.. أراد أن يصرخ بهم ويتوسّل إليهم لكي يأخذوه معهم.. أراد أن يذكرّهم بأنه جزء من أهل هذه النعوش المرفوعة، وأنه قطعة منهم لا تنفصم.. ولكن أحداً لم يحفل بصيحاته الواهية الكليمة.. فراح يرفرف بجناحيه الداميين عساهما يسعفانه في التحليق ليلحق بركب الصحب والخلاّن.. ولكن عبء الجراح كان أقوى من الأماني، وأشد على الطائر الثاكل من إرادة التحليق.. فشرع يتقلّب فوق الصخور والأشواك ناحباً ملتاعاً.. حتى استقر عند جذع شجرة الخروب الجاثمة عند كتف المنحدر.. وراح من هناك يقلب أبصاره بين مشهد الجنازة المتوارية خلف غمائم الضباب وأفنان الشجرة السامقة إلى عنان السماء حيث وعدته دينا في تلك الليلة أن ترسم له عشاً يظلله فيئ البراعم ...
ومكث العصفور الحزين ثلاث ليالٍ لم يبرح خلالها جذع الشجرة، حتى لفظ أنفاسه وأنظاره معلقة حيث توارى الأحبة عند مطلع الشمس في الأفق البعيد.
ثم توقفت الفراشة عن الكلام.. ومسحت دمعة ترقرقت في عينيها.. وراحت الفراشتان تدثران جسد العصفور بما تجمع من أوراق الشجر وأفواف الثمار.. ثم قدمتا لضريحه برعماً أحضرتاه من غرسة وارفة تظلل بأفيائها قبر دينا وبتول.


(1) دينا وبتول، طفلتان من بلدة "جبشيت" – جنوب لبنان، استشهدتا مع والديهما بعد تدمير منزلهما في غارة جوية إسرائيلية.

بإشراف الجمعية اللبنانية للسياحة والتراث

All rights are preserved ©جميع الحقوق محفوظة 2013