النظّارة
بقلم: كاتيا نصار
المطر يعانق الأرض، والغيوم تحمل خيراً كثيراً. أمّا
أنا، فأجلس مكاني على رفِّ البائع، أنتظر من ينقلني من
حالٍ إلى حال. كم أشتاق إلى الحريّة، وإلى مغادرة هذا
المكان المملّ!
قالت زميلتي:
- هذه فتاة تدخل المتجر!.
أجبتها:
- ترى من ستختار؟.
ما هي إلاَّ دقائق معدودة، حتى قدّم لها البائع نماذج
متعددة، وكنّا أنا وزميلتي في أشدّ الشوق إلى معرفة
النتيجة.
أمسَكَت بي، فكاد قلبي أن يمسك بيدها، يسألها ألاّ
تستعمل غيري. ولكنّ لحظات الأمل انسحبت، وحلَّت مكانها
خيبة اعتدْتها، إذْ وضعتني جانباً. وبعد عدّة محاولات
من البحث عما يناسبها، اختارت زميلتي، النظّارة ذات
اللون الزهريّ.
كم تمنّيت في تلك اللحظة، أن يكون لوني زهريّاً!
ولكنّي لم أملك إلاّ أن أتمنىّ لزميلتي حياة هانئة
وسعيدة. بقيت في مكاني الذي أصبح موحشاً بعد مغادرة
صديقتي، وبِتُّ وحيدةً غريبة.
في ساعات الليل المتأخّرة، الصمت مطبق على المكان،
والظلام الدامس حولي يغشى قلبي، ناجيت الله تعالى أن
تنالني رحمته، وأن أنتقل من عالمي الضيّق إلى عالم
متّسع أجد فيه الحرّيّة، والحنان، والحبّ.
في اليوم التالي، قرعت الشمس باب المتجر. «يبدو أنّ
العاصفة قد انحسرت»، قال صاحب المتجر، وهو يرتشف
القهوة مع جاره أبي محمد.
- «الحمد لله على كلّ حال». أجابه أبو محمّد.
كلمات أبي محمد وقعت عليَّ كندى الفجر الذي يغسل وجه
الأرض، فتصحو. «نعم، الحمد لله على كل حال»، ردّدت مع
أبي محمد. وكبر الأمل في قلبي بأن ألتقي من يساعدني
على عبور جسر يصل بي نحو الحال الأفضل.
بعد ذلك، سمعتهما يتحدثان عن قصف إسرائيليّ، طال منزل
أبي محمد ليلاً، وأصاب الطابق العلويّ. أخبره كيف نجت
العائلة بأعجوبة؛ لأنها كانت تختبئ في الطابق الأرضيّ.
أضاف أبو محمد:
- «يبدو أني سأغادر منزلي إلى منزلٍ آخر، فالمدينة
أكثر أمناً من القرية».
مرَّ يومي ثقيلاً كأيّامي السابقة. إنّما بعد أن
غادرنا صاحب المتجر، سمعت حديثاً في الخارج:
- لقد تأخّرنا، ها قد أقفل متجره.
- حسناً، نعود في الغد.
- هل ستبقى الليل كلّه بلا نظّارة؟.
- سأتدبّر أمري.
يبدو أنَّ شابَّيْن كانا في الخارج، وسيعودان في الغد.
غفوت تلك الليلة على أمل أن يعودا، وأن أكون النظّارة
التي ترحل من المتجر.
في الصباح، جلست أنتظرهما. لست أدري لِمَ تعلَّق قلبي
بهما. إنتابني إحساس غريب جعلني أحلم بأني سوف أنتقل
اليوم برفقتهما إلى عالم آخر، عالم مليء بالنزهات،
والرحلات، والأوقات الجميلة. ها أنا على شاطئ البحر
مثلاً، أتنعّم بشمسه الساطعة، وزرقة مياهه الممتدة حتى
الأفق. ربما أنا في مركب صغير أجوب الأمواج العالية.
لا، لا، أعتقد أنيّ سأكون على متن طائرةٍ يحملها الغيم
إلى بلدان بعيدة، حيث السهول الواسعة، والجبال
المترامية على أطراف المدن. ها هما. لقد دخلا المتجر.
كانا في مقتبل العمر. أحدهما يرتدي ثياباً رياضية،
والآخر ينتعل حذاءً عسكريًا، مما جعلني أعتقد أنّه
جنديّ أو شرطيّ.
إستبعدني صاحب المتجر من النظّارات التي عرضها على أحد
الشابَّيْن، ولكنّها لم تنل إعجابه ورضاه، فقدمني إليه.
فقدت الأمل حين أعادني إلى البائع، ولكني سمعته يقول
له:
- هذه هي، إنّها تناسبني.
لم أصدّق ما سمعته. وأخيراً، أخذتُ أخطو نحو أحلامي
السعيدة.
دفع الثمن، ثمَّ غادر مع صديقه. في الطريق، سمعتهما
يتواعدان على الانطلاق في الثانية ظهراً. وما إن وصل
صاحبي الجديد إلى منزله، حتّى رماني جانباً مع أغراضه،
ودخل المطبخ يساعد والدته في تحضير الطعام.
عدت إلى حزني القديم. لِمَ يعاملني بتلك القسوة؟ فأنا
جديدة العهد بالتعرّف إليه. ألا يجدر به أن يبدي
اهتماماً بي؟ في تلك اللحظات، يرنُّ الهاتف:
- «إنه صديقك إبراهيم»، نادت الأم.
- «أنا قادم»، أجابها.
أنهى المكالمة على عجل، وقد لاحظت والدته أنه لا
يستعمل نظّارة، فسألته:
- هل ابتعت نظارة جديدة؟
- نعم.
أحضرني، وقدمني إلى والدته التي جعلت تذكّره بالمرة
الأولى التي اشترت له فيها نظّارة:
- أتذكر يا حبيبي النظّارة الأولى؟
- بالطبع يا أميّ.
- كانت تجعلك تشبه الطبيب.
- وكنت لا أحبّها لهذا السبب.
- منذ التاسعة، وأنت على هذه الحال. أتذكر كم نظّارة
أضعت؟
- لا أذكر يا أمي.
- يا بنيّ، لو تُجري العمليّة وترتاح.
- عندما أنهي مهمتي القادمة، سأقوم بالعمليّة. أعدك يا
أمّاه.
ودّعته والدته وداعاً حمل مشاعر تختصر كلّ عاطفة
الأمومة التي تختزنها أمّ لولدها. أمّا هو، فقد قبّل
يدها، وأسرع بالخروج. روحي كادت تفارقني حين خرج، وكنت
أتساءل عن الحنان الذي كنت أحلم به. ها أنا أراه، ولا
ينالني منه شيء. رحلت كل أحلامي الورديّة، فقد انتقل
بي صاحبي من متجرٍ باردٍ إلى منزلٍ دافئ، ولكنّ دفئه
لا يلمس قلبي البارد المتألّم.
فجأةً، يدقّ الباب بعنف. إنّه صاحبي، عاد؛ ليحملني معه
قائلاً لوالدته: «النظّارة».
كُدت أفقد وعيي، وأنا أسمع تلك الكلمة. حملني على عجلٍ،
ويا لنظرته في وداع والدته الثاني! إنّها نظرة البرّ
والحنان، وأسرار أخرى لا أعرفها.
عند مدخل المبنى، كان صديقه إبراهيم ينتظرنا. سبقه إلى
الكلام: «الفان» جاهز.
وصلنا بعد فترة إلى منطقة خالية إلاّ من مجموعة
انتظرتنا. انطلقنا في خطى بطيئة وحذرة نحو هدف لا
أعرفه. كان هدوء المكان موحشاً، وصمته غريباً.
وصلا إلى هدفهما المنشود. شجرة زيتون معمّرة، وضعت
حقائب خضراء مغطاة بأغصان الأشجار وأوراقها. هدوء عميق
يلفّ المكان، لا يخرقه سوى زقزقة العصافير في كل مكان،
وخرير المياه الجارية في قناة بالقرب منا. وأنا في
دهشتي، وإذا بي أسمع صاحبي، يشرح لهم خطّة دخول الموقع،
وأيّ الجهات سيعبرون. تساءلت: «من هؤلاء؟».
وما إن انتهت جملتي، حتى أخذ القصف يستهدفنا من كل
جانب. وإذ بي ينقلني انفجار القذيفة الشديد إلى أعلى
شجرة الزيتون. نظرت، وإذ صاحبي مضرَّجٌ بدمائه. تذكّرت
كلام الحاجّ أبي محمد: «في الصباح، العدّو الإسرائيليّ
يقصف القرية». وهو الذي استهدف صاحبي وإخوانه، وسمعت
إبراهيم يدعوهم إلى الإنتشار والإحتماء من القصف.
بعد أن هدأ القصف المدفعي، حضر إخوان صاحبي، ثمَّ
نقلوا جثته، وقام أحدهم بجمع أغراضه المتناثرة في
أرجاء المكان. حمدت الله تعالى أنه التفت إليَّ،
وأنزلني، وقدّمني مع باقي الآثار إلى والدته التي ما
إن رأت الدماء عليَّ، حتى ذرفت الدموع على خدها، ثمَّ
تمتمت تقول: «إرتحت من النظّارة إلى الأبد يا بني».
أما أنا، فلم أعد نظّارة بلا لون، ولا هدف، بل تلوّنت
بلونٍ أحمرَ قانٍ، وأصبحت غرضاً ثميناً، وأثراً عظيماً
أعتزُّ بهما بقيّة حياتي.