الصفحة الأخيرة (1)
بقلم: نجوى رعد
امتشق حافظ قلمه، وراح يبثّ خواطره على دفتره الصغير
الذي بات خزانة أسراره، ومشكى ضيمه، ومحطَّ أفراحه
وأتراحه. كانت الكلمات تتدافع متلاطمة؛ لتستقرّ على
الوريْقات المتبقّية، والتي كانت تتراقص على إيقاع
نبضات صاحب القلم، مستعينة بنسمات هواء باردة تتسرّب
من نافذته.
كان نور القمر يحط رحاله على نافذة منزل أبي حافظ،
فتنساب خيوطه متسلّلة؛ لتهبط على ذاك الدفتر الذي غدا
وكأنّه سرّ بقاء حافظ.
خطَّ الشّاب الأسمر كلمته الأخيرة ببسمة ممزوجةٍ بدموع
الفرح: "إليك يا زهرتي، قلب نابض بحبك"، ثمّ قال لنفسه:
"سبحان الله، إنّها الصفحة الأخيرة".
اتجه نحو سريره، استلقى عليه مستسلماً للنوم، فغداً
يوم جديد في الصفحات الأولى لحياته الجديدة.
بدا كلُّ شيء هادئاً في ذلك الصباح المشرق، ما خلا
وريْقات الشجر التي تتمايل يمنة ويسرة، عازفة موسيقاها
الرومانية التي تمجّد تلك الهياكل البعلبكية الشامخة.
رنّ المنبّه رنّته المزعجة، استيقظ حافظ مسرعاً،
فاليوم يوم شاقّ، ولديه الكثير مما سيقوم به، ولكنّه
سيكون يومًا مشهودًا، فهو سوف يلتقي زهرة عمره التي
أحبّها مذ كان صغيراً، وسيذهبان؛ ليشتريا خاتميْ
الخطبة، فالخميس موعد حفلة خطوبتهما.
كانت خطواته خفيفة، وقدماه لا تكادان أن تطآن الأرض،
فتح خزانته، لبس أحلى ما عنده، وخرج.
مالت الشمس بخجل في سماء بعلبك، وهي ترسل خيوطها
الذهبيّة، تُحيك منها ثوبًا، تلقيه على ثانوية السيد
عباس الموسوي.
مشى سهيل وعليّ في ملعب المدرسة، كعادتهما كل صباح.
سأل سهيل عليّاً: "كم الساعة الآن"
أجابه عليّ: "إنها الثامنة إلا ثلث"
رد سهيل: "اللعنة ما هي إلا دقائق حتى يرن الجرس، كم
أشتاق للعطلة الصيفيّة"
استغرب عليّ: "يا رجل، إنك في الصيف تشتاق للعطلة
الصيفيَة، فكيف الآن"؟
كان سهيل ككل يوم يمشي، ويركل كلّ حجر أو حصى تلقاها
قدماه، وكأنّه يثأر من كل حجر من حجارة المدرسة. بينما
هو على هذه الحالة لمح كرة بنيّة اللون، وللوهلة
الأولى لم يعرفها، ولكنّه ما لبث أن تذكر كلام الأستاذ
"كامل"، ومحاضراته للتلاميذ، لعلّها تلك التي يسمونها
"القنابل العنقوديّة".
اقترب منها، تأمّلها، ثمّ نظر إلى عليّ الذي بدا عليه
الإستغراب من تصرفاته، ثمّ قال له: "انظر، ولا تلمسها،
لعلّها قنبلة عنقوديّة".
دهش عليّ، وقال: سأستدعي الأستاذ كامل، إبقَ هنا حتى
لا يقترب منها أحد.
ركض عليّ، وأنفاسه تتصاعد حتى وصل إلى غرفة النظارة،
وقال بصعوبة شديدة: "أستاذ كامل، لقد وجدنا قنبلة".
نظر الأستاذ مقطِّباً حاجبيْه، ثمّ قال له: "اذهب يا
عليّ، فأنا أعرف حركاتك..."
عليّ: "أقسم بالله يا أستاذ، إنّ هذا ما رأيته".
عندها أسرعا معاً، كأنّهما في سباق مع الزمن حتّى وصلا.
نظرا إليها، ثمّ قال الأستاذ: "إنّها فعلاً كذلك،
أحسنتما، لا تلمساها حتى أستدعي خبير متفجرات، الحمد
لله، أنّها لم تنفجر بأحد من التلامذة".
اتّصل الأستاذ كامل بحافظ، وليستدعيه، وعندما حاول
حافظ أن يعتذر عن الحضور،وأنّه لا يستطيع تلبية رغبته
في المجيء، عندها قال له الأستاذ كامل: "أرجوك يا حافظ،
إنّه أمر مهم، ولا أستطيع أن أخبرك به هاتفياً".
اتجه حافظ مسرعاً نحو المدرسة، وما هي إلّا دقائق حتى
وصل، اتجه نحو الملعب، فوجد الأستاذ كامل، وحوله بعض
التلاميذ الذين يحاولون الإقتراب، يدفعهم فضولهم
المبكر للتهوّر، والأستاذ يصرخ بهم: "لا يقترب أحد،
أرجوكم، ابتعدوا".
اخترق حافظ جموع التلاميذ، ووصل إلى الأستاذ، سأله
عمّا يجري، فاكتفى الأستاذ كامل بالإشارة إلى تلك
الكرة الغريبة، وما إن وقع نظره عليها حتى هزّ رأسه،
وطلب من الجميع الإبتعاد.
كان حافظ خبيراً محترفاً في تفكيك المتفجرات، فلطالما
اعتادت أصابعه على القيام بذلك بمهارة قلّ نظيرها،
أمسك الكرة الغريبة، وما إن أراد أن يفكك صاعقها حتّى
علم أنّها خدعته، كما خدعت قبله أناساً، وأطفالاً، و،
و.
مرّت لحظات من السكون والصمت، وانقطعت أنفاس المحيطين
بحافظ، حين رأوا ملامح وجهه قد تلبّدت، ونظراته التي
شملتهم جميعًا دفعة واحدة. تمتم بكلمات همس بها من
وجدانه إلى قلبه، ثمّ حضن القنبلة.
كان كل شيء صامتاً في تلك الغرفة التي تركها حافظ.
وقفت زهرة تتأملها بكل تفاصيلها ، اقتربت من السرير،
وجدت دفتراً صغيراً، وإلى جانبه وردة حمراء كانت قد
أهدته إيّاها بالأمس القريب. أمسكت الدفتر وقرأت تلك
الكلمات، بكت، ثمّ ضحكت، ثمّ عادت وأستغرقت في البكاء
"إليك يا زهرتي، قلبٌ نابض بحبك".
أغلقت الدفتر، وكأنّه الصفحة الأخيرة من حياتها التي
لم تبصر الربيع بعد، وقبلته مهراً لها.
(1) مستوحاة من قصة الشهيد حافظ خليل عباس.