الدّبقْ
بقلم: حسين منصور
كانوا يجدّون في السير، ويطلقون أقدامهم بكلّ عزم،
حتَّى تسرع في خطاها. وصلوا إلى كتف إحدى التلال التي
تفيض بالأشجار المتألّقة الزاهية والمثمرة، وهي ترمق
الوادي القريب الذي صعد منه جعفر وباقر وعليّ.
كانوا يطلقون أنفاسهم التي تنافس أغصان الأشجار في
خفقاتها ومداعبتها للهواء، وقد باتوا الآن نائين عن
الخطر، ويستحقّ الأمر أن يمضوا فترة من الراحة قبل
بلوغ المكان الذي يقصدونه.
كان كلّ شيء يشرق بالسكون والهدوء، إلَّا أنَّه كان
يصل إليهم صوت يرتفع قليلًا، ثمَّ يهمد ويتلاشى: «فِرْ..
فِرْ.. فر».
أقلقهم هذا الصوت، فهم لم يعتادوا على سماع صوت شبيه
به في هذا المكان، ولن يسعفهم الركون إلى الراحة قبل
أن يطمئنّوا، ويقطعوا الشكّ باليقين.
وعاود الصوت يرسل نداءاته وومضاته. توزّعوا في المكان،
وسلك كلّ واحد منهم جهة، وبدأ الصوت يصبح أكثر وضوحًا.
إنَّها رفرفة جناح قويَّة، وسقسقة جزعة ومتلاحقة.
- جعفر: «أَمْعِنُوا النظر جيّدًا بين الأغصان، أظنّ
أنَّ معركة تدور بين طيريْنِ»!
- علي: «قد يكون ذلك، ولكنَّ علينا أن نتأكّد، ولا
ينبغي أن نغفل أو نهمل معرفة مصدر الصوت».
كان باقر يسبقهما، فتوقَّف فجأة، ثمّ تقدّم قليلًا، وﭐنحنى،
ليُدْخِلَ رأسه بين الأغصان. لقد وقع نظره على عصفور
التين، وقد علق جناحه الأيمن بأعواد «الدّبق»، وها هو
يرفرف بجناحه الأيسر بقوّة وأملٍ، عساه أن يفلت
ويتحرّر ممّا تورّط به. إقترب عليّ وجعفر من باقر،
وكان العصفور الصغير يهدأ قليلًا، ثمَّ يكرّر محاولاته
الفاشلة للإفلات من الدّبق. وبدت نظراته حائرةً وخائفةً،
لعلّه ظنَّ أنَّ باقرًا هو الجلَّاد الآتي من أجل سلب
حياته.
لقد ﭐختفى بريقه وإشراقه، وﭐستحالت فرحته بالتين إلى
خوف شديد من هذا الدّبق النزق الخالي من الرأفة، بل
إنَّه ذلك الصياد العابث الطائش الذي ﭐستسهل أن يكون
العصفور الصغير ضحيّته، وأن يكون دِبقه معسكرًا
للتعذيب والموت البطيء. إنَّه نوع من الظلم والإجرام،
أبوابه مفتوحة على سوء الضمير.
- جعفر: «يا لقساوة البشر، لقد جعلوا لصيد الطيور
وقتلها مواسم ومواعيد، يتركونها تتكاثر، ثمَّ
يُجْهِزُوْنَ عليها، إشباعًا للهواية والترف، وإطلاقًا
للهوى الذي لا يعرف حدودًا».
- عليّ: «لكنّ التعذيب بغيض وقبيح. إنَّه من أعمال
الشيطان».
- باقر: «لا ذنب لنا في ما يفعله الآخرون. إنّنا نواجه
الأخطار في مواجهة المعتدين الصهاينة، ولكنَّنا لا
نفزع ولا نجزع، غير أنَّني خائف الآن على هذا العصفور،
فمنذ أن وقع نظري عليه، وهو يتلوّى على الدّبق».
مدّ باقر يديه، وبدا كأنّه يعرض على العصفور العون
والمساعدة. قال له: «لا تخف، لن أفعل ما يسيء إليك،
وسأمنحك الشوق لحرّيّتك. أنظر إليّ، فأنا لا أحمل
سكّينًا ولا قفصًا، إنّني أحمل إليك محبّتي. دواؤك في
يديّ، فـﭑهدأ، وﭐسكن، وﭐسمح لي أن أباشر عملي».
إضطرب العصفور قليلًا حين لمستْهُ يدا باقر، ثمَّ ﭐستجاب
وﭐستسلم لطبيب الأسى، وراحت يدا باقر تعملان كَيَدَيْ
جرّاحٍ خبيرٍ متمرّس، يتوخَّى الحذر والحرص، وكأنَّه
يزيل ورمًا سرطانيًّا من موضع حساس، فينزع كلَّ زغب من
كلّ ريشة عن الدّبق الملعون بكلّ دقّة وﭐنتباه.
- عليّ: «أرجو أن لا تكون قد ورّطت نفسك في هذه
العمليَّة، فالدّبق فخّ محكم، والإفلات من قبضته صعب
وعسير».
- باقر: «إنّني واثق من النجاح، وأريد منكما أن
تساعداني، لننجح سويًّا، وإذا ما عاد ذلك الصيّاد
القاسي إلى دبقه، أرغب في أن يجده خاليًا مستوحشًا،
وأن يشعر بالخيبة والفشل والهزيمة، ليُدرك أنّ هذه
العصافير الصغيرة الضعيفة هي أقوى من مكره وقساوة دبقه».
- جعفر: «لو تركْنَا الدبق يفعل ما يحلو له من تعذيب،
لٱنتشرت عمليّة الصيد بواسطته، وتحوّلت حياة العصافير
إلى عذاب دائم. لقد فرض علينا هذا العصفور وضعًا صعبًا
ودقيقًا. العصفور بين يديك يا باقر، ولسوف تنقذه بعون
الله».
وعاود باقر عمله، وﭐستكان العصفور له، فٱستخدم كلَّ
الأساليب التي يعرفها، أو التي كان يبتكرها بتأنٍّ
وذكاء، وتمكّن بعد ساعات مقلقة ومضنية من أن يرى نظرة
الحرّيّة في عيني العصفور، وقد حرّك جناحيه بكلّ
حرّيّة بين يدي باقر.
قرّب باقر العصفور من فمه، وقبّله على رأسه الصغير، ثمَّ
مرّره أمام أعين علي وجعفر، ورفع يديه، ثمّ فتحهما،
وأطلقه في الفضاء. دار العصفور دورة كاملة فوق الإخوان
الثلاثة، مرفرفًا بجناحيه، ثمَّ حمل حرّيّته، وﭐنطلق
بها.
إنحنى باقر قليلًا، وحفر بيديه حفرة صغيرة، ثمَّ ﭐنتصب
واقفًا، وأمسك بالدّبق، ورماه في الحفرة، وطَمَرَهُ
فيها.
عاد الصيف من جديد، فنضجت «أكواز» التين، وﭐكتظَّت
الطبيعة بالعصافير التي أخذت تسقسق، وترفرف، وتحط،
وتطير، وتتبع الدروب التي سار عليها باقر وإخوانه،
فتلتقط أنفاسهم من الغصن والزهر والحقل، ثمَّ تَرِدُ
نبعَ الماء هناك، فتتوضأ، وتصلي، وتنتظر.