الإفطار الدّسم
بقلم: فؤاد مرعي
جلس العجوز على عتبة منزله الأماميّة. بدا مسترخيًا،
وهو يضع بين إصبعيه ورقة رقيقة بيضاء، راح يحشوها
بالتبغ. لم يكن وجهه النحاسيّ ليدلّ على رجلٍ قضى
أيّامه في رفاهةٍ وراحة. لكنّ شاربيه الملتفّين حول
فمه الغائر، وعينيه الصقريَّتين رسمت له صورة نسرٍ
معمّر أخفى صلعته بكوفيّة وعقال. راح يدخّن راشفًا
قهوته الصّباحيّة الّتي أحضرتها للتو إمرأة ترتدي
لباسًا قرويًا لا يكشف سوى عن وجهٍ رقيق الملامح، رغم
بصمات السنين. دلّت مشيتها على أنّها ما زالت قويّة
البنية. بضع دقائق مرّت قبل أن يقطع سكون الحي أصوات
رجالٍ قادمين من ناحية الساحة. كانت الأصوات تعلو
كلّما توغّل الحشد في الشارع الضيّق. بضعة رجالٍ
مسلّحين تتبعهم سيّارة جيب عسكريّة.
سار في المقدّمة، مسلّحٌ قصير القامة يمسك برباط كلب
متجهّم، وهو يلهث، ويفرز من فمه المفتوح لعابًا.
توقّفت الدوريّة أمام المنزل الملاصق لمنزل العجوز.
قال أحدهم بصوتٍ آمر:
- إفتحوا!
دخل عددٌ من المسلّحين إلى المنزل يتقدّمهم الكلب.
تناهت أصوات صياح من داخل المنزل. فَهِمَ العجوز أنّها
شتائم. بعد دقائق بدت طويلة خرج المسلّحون وتحرّك
موكبهم باتجاه المنزل التالي.
كان لا يزال جالسًا في مكانه يدخّن. نظرته الهادئة
الّتي لا تنمّ عن شيء جعلت المسلّح وكلبه يقفان للحظة
متردِّدين. تقدّم مسلّحٌ آخر يحمل في وسطه مسدّسًا وفي
يده قضيبًا رفيعًا راح يطبطب به على كفّه المفتوحة.
قال بلهجة حذرة:
- نريد تفتيش المنزل. سِر أمامنا.
لم يُجب. حدّق في عيني الرجل حامل القضيب ونفث دخان
سيجارته. أطفأها في تراب الجلّ الصغير ونهض سائرًا
باتجاه مدخل البيت. لحق به المسلّحون. سُمعت في الداخل
أصوات، ثمّ دبّت فوضى. كانت الأصوات تنتقل من غرفة إلى
أخرى. إلى أن باتت تُسمع في الفناء الخلفي للمنزل وفي
الحديقة المحيطة به. بقيت سيّارة الجيب متوقّفة أمام
المنزل. كان في داخلها جنود إسرائيليون. فيما انتشر
تحت الشرفات وفي زوايا الشارع عددٌ آخر من المسلّحين.
بعد فترة من الوقت بدأوا بالخروج من المنزل. كانوا
يشتمون ويلعنون. بدوا في حالة من القرف والغضب الشديد،
وقد وضع بعضهم أصابعه فوق أنفه. قال كبيرهم على عجل:
- لنرحل من هذا المكان على الفور.
تابعت الدوريّة سيرها باتجاه منازل الحيّ الأخرى. بقيت
الأصوات تُسمع بشكلٍ متواتر.. إلى أن اختفت تمامًا.
وقف العجوز يراقب الشّارع الّذي بات خاليًا من المارّة.
بعد قليل دلف إلى منزله. من هناك خرج إلى الحديقة
الخلفيّة حيث أُقيمت زريبة للأبقار مسقوفة بالخشب
والطين. وضع على فمه وأنفه منديلًا ربطه خلف رأسه. ثمّ
دخل الزريبة. أزاح معلفًا خشبيًا من مكانه. تناول من
وراء الباب رفشًا، راح يجرف به قاذورات وبقايا ذات
روائح نتنة. تكشَّفت الأرض عن لوحٍ خشبيّ عريض، فُتِح
من الداخل بعد أن نقر العجوز عليه ثلاث نقرات. قال
باقتضاب:
- لقد ذهبوا. بامكانك الصّعود.
- لا أستطيع الوقوف. أظنّ أنّ رجلي قد كُسرِت.
- لا عليك سوف أساعدك.
- إتّكئ عليّ. فأنا ما زلت قويًّا.
بعد قليل كان الجريح مُستلقيًا على سريرٍ خشبيّ في
غرفة داخليّة، فيما كانت المرأة تُعِدّ مائدة الطعام
في غرفة المطبخ.
أدار العجوز قرص الراديو. كان المذيع يقول: نفّذ رجال
المقاومة عمليّة عسكريّة ضدّ جيش الإحتلال، سقط خلالها
عشرة جنود بين قتيلٍ وجريح. أطفأ الجهاز وراح يبحث عن
علبة التبغ. إلتمعت عيناه ببريقٍ لم تعهده فيه المرأة
من قبل. قال لها، وهو يضع اللُفافة بين إصبعيه:
- إجعلي الإفطار دسمًا، يا حجّة!