فَتَّةُ خُبْزٍ
بقلم :
حسين علي منصور
عصر يوم الإثنين، في أواخر شهر أيَّار، كان عليّ وأحمد
وحمزة يرتاحون تحت أشجار الزيتون في أحد الكروم الواقعة في
خراج بلدة «عيتيت»، بعد أن عادوا من مهمّة قد أنجزوها.
كانوا قد ﭐختلسوا النظر إلى بلدة «حانين» المسبيّة،
ومرّغوا أجسامهم بأطراف ثوبها، وغبار ترابها، ثمَّ جلسوا
هنا في هذا الكرم، يعيشون الحنين، ويكتبون الرسائل
المخفيّة للأرض التي تنشّقوا رائحتها، و«للزعتر» الذي
لاقاهم بزغاريده، ولِبُحَّةِ حفيف الشجر وغصته؛ لأنَّه لم
يأنس بهم طويلًا.
أسند عليٌّ ظهره إلى إحدى الأشجار، ثمَّ مدّ رجليه، ووضع
كفًّا على كفٍّ في حضنه، وﭐنصاع يتأمّل المكان، وينظر إلى
التلّة التي تقابله من جهة الشرق، فقد كانت «حانين» تغيب
وراءها.
لاحظ عليٌّ صَفَّيْنِ من النمل، يتحرّك كلُّ واحدٍ منهما
بـﭑتجاهٍ معاكس للآخر، إذْ يمتدّ الصفّ الأولّ من جدار
الحجارة المرصوفة فوق بعضها، متوجّهًا إلى ثقب قريبٍ منه
في الأرض، ويخرج الصفّ الآخر من الثقب، متوجّهًا نحو
الجدار، ولكنَّ جميع أفراد الصفّين تدخلُ وتخرج من غير أن
تحملَ معها شيئًا.
غيّر عليٌّ وضعيَّة جلوسه، فتربّع في مكانه، وأخذ يتساءل:
لِمَ يعود النمل إلى الثقب خالي الوفاض، على الرغم من وجود
القشّ والورق وغير ذلك؟ لَفَتَهُ هذا الأمر، وأثار ﭐنتباهه
توقُّفُ بعض النملات وﭐقترابها من بعضها، حيث أخذت تتلامس،
وكأنَّ كلَّ واحدة تداعب الأخرى، ثمَّ تعود إلى مكانها
ومجموعتها التي مالت عنها. لقد تذكّر أنّ في جعبته كسرة
خبر، فمدّ يده إليها، ثمَّ أخرجها، وأخذ يفركها بيديه، وقد
بدأ يرمي ذلك الفتات الصغير إلى النمل.
توقَّف النمل عن الحركة عندما لامست تلك الفُتاتات الأرض،
ثمَّ ما لبثت بعض النملات أن ﭐقتربت منها، وبدأت تتحسّسها
بأيديها وأرجلها، وتقلبها، ثمَّ تلتصق بها من دون حركة،
وكأنّها تشمّها، ثمَّ تقبل عليها، فتحملها بفكّيها، وتذهب
بها نحو الثقب، وتختفي في داخله.
كان عليٌّ يراقب ما يحصل بدهشة وفرح، ويرى كيف يسارع النمل
إلى ﭐلتقاط فتاتِ كََسْرَةِ الخبز؟ وقد ذهب عنه الملل
والضجر، ودبّ فيه نشاط مذهل، وحصل على الزاد الذي كان يبحث
عنه من غير عناء أو تعب. يا إلهي! هناك أمر عجيب آخر يحدث.
لقد ﭐمتنع بقيّة النمل عن التوجّه نحو الجدار، وها هو
يجتمع في المكان الذي رمى فيه عليٌّ فتات الخبز. إنَّه
يتحرّك بشكل مختلف، فيتهامس، ويتلامس مع بعضه البعض بسرعة
مذهلة، وكأنَّه ينتظر من عليّ أن يقدَّم له المزيد.
كان أحمد وحمزة يراقبان هذا المشهد، وقد لاحظا كيف ﭐلتقط
النمل أثر بريق المحبّة في فتات الخبز الذي رماه عليّ عليه؟
وكان ذلك أشبه بمناغاة طفل لأمّه، أو حقل لزرعه، أو وردة
لنداها. إنَّه شيء يشبه الخروج من سجن الأشياء إلى فضاء
الحرية، حيث نكتشف العلاقات والروابط، ونذوب فيها.
وعاد عليٌّ، ودفع ما تبقّى في يده من فتاتٍ إلى النمل، وﭐستخدم
النملُ لغتَهُ التي لا نسمعها، ولكنَّنا ندركها بوضوح من
خلال الحركات التي تمليها فطرته. حمل الفتات، وﭐندفع به،
حتَّى ﭐختفى داخل الثقب.
- أحمد: يا سبحان الله! هذه الفطرة لو طردْنَاهَا من
عالمنا وحياتنا، فلسوف تطردُنَا من عالمها وحياتها، وتحتجبُ
أسرارها، فلا تجد من يفتّش عنها.
- عليّ: إنَّه الإختيار يا صاحبيَّ، فهو الذي يحدّد المصير،
ويحدّد الطموح. الإختيار جعلني أخرق سكون اللغات، وأبني
علاقة مع هذا النمل بقليل من الفتات.
- حمزة: لولا حرارة القلوب، لدسْنَا هذا النمل بأقدامنا،
وسحقْنَا أحلامها وحياتها من دون رحمة، ومن غير أن نحسّ
بوجودها.
- عليّ: هيَّا بنا، إنَّ الإخوان ينتظرون حضورنا.
في عصر يوم الجمعة من شهر آب، عاد حمزة وأحمد إلى كرم
الزيتون في «عيتيت» من مَهَمَّةٍ أنجزاها، وكانا قد ﭐختلسا
النظر إلى بلدة «رشاف»، ومرّغا جسميهما بأطراف ثوبها.
أسند حمزة ظهره إلى إحدى الأشجار، وتربّع في مكانه، ثمَّ
أخرج من جعبته كسرة خبز. راح يفركها بيديه، ثمَّ ألقى
الفتات على الأرض، فـﭑجتمعَ النملُ عليها، وﭐشتعلَتْ حرارةُ
القلوب.
• الجزء الثالث من سلسلة «قلم رصاص» / موسوعة نصر لأدب
المقاومة / إصدار الجمعية اللبنانية للفنون – رسالات.