مقابلة
صحفيَّة
بقلم:
ماجدة اسماعيل ريا
إمتشقْتُ قلمي، وحملت بِيض أوراقي، وخطوْتُ نحو تلك
البوّابة الزرقاء الكبيرة المؤدّية إلى مَمَرِّ عريض،
يجعل حديقة المنزل شطريْنِ متوازييْنِ.
رأسي مثقل بحشدٍ من الأسئلة الحيرى التي تبحث عن أجوبة،
فقد حضرْتُ إلى هنا، لأُجري مقابلة مع أمّ ياسر،
الشهيد الذي سقط في العمليَّة النوعيَّة الأخيرة،
مدفوعة بشوق كبير للاستماع إلى أيّة كلمة تفوه بها!
ومع ذلك، كانت خطواتي بطيئة، فتساءلت في نفسي: «هل هو
التهيّب من لقاء أم الشهيد، أم هي رائحة التراب التي
تفوح من الأرض، فتخترق عظامي؟ أم لأن الإنسان من تراب،
وإلى التراب يعود؟ لست أدري. أخذت نفسًا عميقًا، حتّى
ٱمتلأت رئتاي، وتابعت التقدم بٱتجاه الباب الرئيسي
للمنزل.
السماء ملبّدة بالغيوم الداكنة، لم تفرغ كلَّ حمولتها
من المطر، وقد لفتتني تلك القطرات التي لا زالت تزيّن
الأغصان العارية، كأنَّها دموع الندى. وسنديانة عتيقة،
تنتصب بكلِّ شموخ قرب الجدار، وقد زاد المطر ٱخضرارها
توهّجًا، حتَّى بدت كجوهرة خضراء.
تعانقت ألوان الشتاء في هذه الحديقة، وأكسبها كانون
لونَ النار، بٱستثناء شجيرة منها، أبت إلا أن تبقى في
ألق، إذْ تفتّحت ورودها نديّة بلونها الزهريّ الذي
يتحدّى قسوة البرد.
إستغرق منّي هذا الممرُّ القصيرُ بضع دقائق. وصلت
أخيرًا إلى الباب، نقرت نقرات خفيفة، فٱنفتح أمامي،
وظهرت منه صبيّة صغيرة، قادتني إلى حيث تجلس والدتها.
شعرْتُ بالرهبة من جوَّ تلك الغرفة. أتراها ليست كباقي
غرف الجلوس؟ «مقاعد أنيقة تكشف عن ذوقٍ رفيع، وديكور
رائع، بالرغم من بساطته، يجعل النفس في حالة سكون غريب.
لا، ليس هذا هو السبب بالتأكيد، فربما يكون مبعثه تلك
المرأة التي وقفت تستقبلني. كانت في العقد الخامس من
العمر. وبدأت بعض التجاعيد الخفيفة تتسرب إلى خطوط
وجهها، ولكنّها لم تمنعْهُ من أن يشعَّ نوراً، يجعل
الناظر إليها منجذبًا إلى تأمّل قسماته.
بعد السلام والتحية، جلست قبالتها، دوّنت كلّ كلمة
تَلَفَّظَتْ بها. وأنا أحاول أن أنقل على أوراقي بعضاً
من شغفها وهي تتحدث عن الذي طالما أحبّته، ولا زال
يسكن فؤادها.
وفي الختام، كان السؤال: «ما هي أعزّ أمنية لديك الآن؟»
دمعت عيناها، وبصوت أجشّ جعل القلم يرتعش في يدي، قالت:
«أتمنَّى أن أذهب إلى المكان الذي ٱستشهد فيه، وأزرع
وردةً هناك».
لم أستطع أن أمسك دمعتين سالتا على وجنتيَّ، وأنا
أردّد: «أتمنى من الله أن يحقّق لك أمنيتك هذه عندما
تتحرّر الأرض».
بزغ فجر الخامس والعشرين من أيار عام 2000، محمّلًا
بعبق أريج الإنتصار والتحرير، فقد دُحِرَ العدو
الإسرائيلي، وٱنسحبت فلولُهُ من معظم أراضي الجنوب
اللبناني.
الناس يتدافعون بٱتجاه الحلم، كل يريد أن يبارك
أنفاسَهُ بتنشّق الهواء الذي حرم منه طويلًا.
لم أنسَ أمنيّة تلك المرأة، وقرّرت أن أشهد تحقيقها.
وكان المعنيون في المقاومة اتخذوا كل الترتيباتِ
اللَّازمةَ لنقل أم ياسر إلى مكان استشهاده الواقع في
منطقة وعرة يصعب الوصول إليها.
وَقَفْتُ أمام تلك الدار مرّة أخرى، وكان الخبر قد
سبقني إليها. فها هي المرأة الخمسينيّة بكلّ وقارها
تنتظر في الخارج بفارغ الصبر تحقيق الأمنيّة التي حامت
سنوات في سماء قلبها.. أرض الحديقة تموج بالإخضرار،
وقد ٱنبعث عطرُ ورودِها المضمّخة بلون العيد في كلّ
مكان، فٱستدفأت بأشعة الشمس، التي ٱنعكست أنوار فرح،
تبلسم الجراحات، وتُشعر الناظر إليها بنبض الحياة.
السنديانة العتيقة لا زالت على شموخها، ترتفع من
داخلها زقزقات وأغاريد، تردّد حكايات النصر مع فرح
الربيع.
تلاقت عيوننا. إبتسمْتُ، فبادلتني الإبتسامة، وما لبثت
أن ٱحتضنتني بحرارة، ثمَّ نظرَتْ في وجهي، وهي تسأل
بصوت أجشّ: «جئْتِ لتشهديْ أمنيتي تتحقق ؟!».
أومأْتُ برأسي علامة الإيجاب. ٱنطلقنا معًا في السيارة
التي كانت تنتظرنا عند المدخل.
السيارات تسير في قوافل نحو الجنوب، حيث خرجت البلدات
والقرى عن آخرها في عرس التحرير. الناس في الطرقات
والساحات يعقدون حلقات الدبكة. والنساء أطلقن العنان
للزغاريد والأهازيج والعتابا.
من حين إلى آخر، كنت أسترق النظر إلى وجه المرأة. كانت
هي الأخرى تراقب ما يجري خارج السيارة، فتشعّ عيناها
نوراً يضيء قلبها.
بدأت السيارة تتنحّى عن الطريق الرئيسي، لتدخل في
طرقات فرعيَّة، حتَّى وصلْنَا بعد طول مسير إلى
مقصدنا.
توقّفت السيارة. ترجّلت «أمُّ ياسر». عاينت المكان،
فجثت بشكلٍ تلقائيّ على ركبتَيْهَا. مدّت يديها إلى
التراب، قبضت بهما حفنة، رفعتها إلى وجهها. شمّتها.
أخذت نفساً عميقًا، وصاحت: «لا زالت رائحتك هنا يا
ولدي. أرى روحك وأرواح الشهداء تفتح بوابات التحرير،
تتقدّم الناس. تهلّل وتُكبّر. أشعر أن عرسكم اليوم
أكبر من عرسنا، وفرحتكم أكبر من فرحتنا. أنتم الأحياء،
وأنتم الشامخون..».
كانت تتلمّس بحنان تراب المكان الذي منه ارتفع إلى
الملكوت. تحتضن صورته حيناً وتقبّلها أحيانًا أخرى.
كان قلبي ينبض بعنف، وحواسي لا تكفيني لإدراك ما يجري.
بقينا نراقب حركتها العفويَّة، وكلماتها التي ٱنطلقت
دونما تحضير، لتفيض بمشاعر جيّاشة.
أمسكَتْ شتلةَ الوردِ التي أحضرتْهَا مَعَهَا، ثمَّ
غرستْها في تلك البقعة من الأرض تخليداً لذكرى حبيب
زرع جسده في ثراها شهيداً.