ميم – دال

بقلم: الشيخ فضل عباس مخدر
- ماذا يفعل؟
- لست أدري، أظنّه يتحدّث إليها.
- ماذا؟!
- نعم، أظنّه يتحدّث إلى المقنبلة (1).
- هل تسخر منّي يا نعيم؟
- لا، أبدًا، هل تظنّ أنَّ الموقف يحتمل السخرية؟!
- إذًا، دعنا ننسحب!
- لا يمكن.
- لماذا؟!
- لقد أضاع حسين حلقة المقنبلة، وما زال ممسكًا بالأمّان.
- وهل يحتمل إصبعه ذلك؟ أين الحلقة؟ كيف ضاعت؟
- لست أدري، لا تصرخ هكذا.. كلُّ ما في الأمر أنّ الدوريَّة مرّت بسرعة غير معهودة، فلم يتمكن من إلقائها على الآليَّة الأولى، وقد أحسن الصنع، إذ لم يضرب الثانية، وإلَّا حصدتْنَا الأولى بالرصاص.
- إذًا؟
- لا شيء، سننتظر رجوعهما.
- هل يحتمل إصبع حسين ساعة كاملة؟
- لست أدري، كان الله بعونه، فلقد طَرَدَنَا من حوله، وأظنّه يتحدّث إليها الآن.
- لا تستفزّني يا نعيم، كيف يتحدّث إلى المقنبلة؟
- يا أخي، إذهب وﭐسمع.
نظرْتُ من حولي يمينًا وشمالًا، وإذا بالشباب كلّ في موقعه، والموقف لا نُحْسَدُ عليه. تسلَّلت من خلف حائط محطّة البنزين القابعة في عين القنطرة بين العاقبية والصرفند على الطريق الساحليّ من الجنوب. وبهدوء تامٍّ، دخلت إلى تلك الزاوية من بستان الليمون، ولكنّني لم أرَ أشجار الليمون مثلما رأيتها في ذلك اليوم، ولم أَشْتَمَّ رائحتها كما شممْتُهَا في تلك اللحظة.
إقتربْتُ شيئًا فشيئًا، وصدى يباس الوريقات المتكسّر تحت أقدامي يختلط بنبضات قلبي، وكأنَّ ضجيجًا من سنابك خيل التاريخ تجمَّع بين صدغيّ، يدقُّ الأوردة بالدم المنسلّ إلى دماغي، وقد أحسست بأنَّ مقبض بندقيّتي يتهشّم بين ضغط أصابعي، لكأنّ المعركة التي فاتت منذ دقائق ﭐلتهبت من جديد، ولكنْ بين أضلعي وما تبقّى من لهاثي وحسيس أنفاسي، وأنا أتخيّل أنَّ حسينًا عبوةٌ ناسفةٌ من دون توقيت، ستنفجر في أيّة لحظةٍ، فيتبعثر أشلاءً على جسدي وحبّات البرتقال المندّى الراقص على أعتاب جفوني.
أخذت أحاول أن ألتقط ﭐرتعاد أطرافي وبعض رئتيّ، وأسترق السمع، وأمعن في حديثه معها، وهو يقول:
يا صغيرتي، يا حلوتي، لم أكن أعرف أنّني أعشقك إلى هذا الحدّ، ولم أعتقدْ أنَّ الحبَّ لذيذ بهذا القدر. لقد أحببْتُ يومًا بنت جارتنا، وكتمت الأمر، إذْ لم أخبر أحدًا عنها، كي لا يقولوا: «لا تفعل، لست بعمر الحبّ»، ولكنّني أشعر معك اليوم بأمر آخر، وعمر آخر، ولحظة غرام، لا أخشى فيها لومًا، ولا حتّى عتابًا. يا صغيرتي أنا أفخر بك وأصدح بالأمر، فلا خجل بعد اليوم، إذْ لم أَرَكِ إلَّا بالأمس، وها أنا أحتضن عنقك بملء قلبي، وهيامي فاق عشّاق الدهر.
في لحظة سكون، إنقطع بها صوت السيّارات تسلَّل ناظرايَ من بين أغصان الليمون وعبق أشجارها، فتأمّلت وجهه، ورأيت دموعًا تجري على وجنتيه، وهو يبدّل إصبعه من على فَمِ المقنبلة بإصبع يده الأخرى، دبت رجفة في قلبي وروحي وضلوعي معًا، وأحسست بعضلات وجهي كأنَّما ستتمزّق لشدّة ﭐنكماشي على نفسي، وإذا به يقبّلها، ويقول:
يا حبيبتي، قد آن أوان قطافنا معًا، سيرجع أبناء الأبالسة هؤلاء قريبًا، وسنأخذ منهم كلَّ مأخذ، سندوي معًا، وليسمع كلُّ الخلق ممَّن رحلوا وممَّن ينتظرون صوتَنَا وأُغنيةَ أحلامنا ورقصة مجدنا.
إن شئتِ عدم ﭐنتظارهم، وأردتِ أن تصدحي بعشقنا الآن، فليكن، فكفاني أنّني أرى السماءَ قد شرّعت أبوابها، وعيونَ الحور قد حدّقت فيّ، ويا لَروعةِ رقص الملائكة!
حبيبتي.. حبيبتي، فليكن ما يكون، تعالي إلى صدري الحنون، ضمّيني كما أضمك، عانقيني مثل معانقتي لك، وَلْيَلِدَّ الجنون.
صغيرتي، ما أحلى لقاءنا! وما أحلى أن تكوني عنيدةً!َأَبَيْتِ أن نعود بلا قطاف، سنقطف ما تريدين.
وفي لحظة، جاء الهدير، وعلت أصوات جَنازير الآليّات من بعيد. عدتُ إلى نفسي، فأدركت واقعي، وأين نحن وكيف كنَّا وما علينا أن نفعل.. عُدْتُ أدراجي إلى موقعي بسرعة البرق، ومن دون أن يشعر، وقد كان لحديثه مع معشوقته أثرٌ في قلبي، وأنا أسمع صوت المجنزرات يقترب حتّى غدا في داخل أذنيّ، وكانت قدماي تمشيان فوق الهواء من دون حسيسس. وما إن نزلْتُ من أبراج عنفوانه إلى أرض زاويتي، وأدرْتُ وجهي تجاهه، حتّى دوّى الصوتان معًا: الله أكبر.. والإنفجار.


• الجزء الرابع من سلسلة «قلم رصاص» / موسوعة نصر لأدب المقاومة / إصدار الجمعية اللبنانية للفنون – رسالات.
1- المقنبلة: نوع من القنابل التي تستخدم في ضرب الآليات الكبيرة، وتعرف أيضاً بـ(ميم – دال).
2- يلدّ: يشتدّ ويختصم.

بإشراف الجمعية اللبنانية للسياحة والتراث

All rights are preserved ©جميع الحقوق محفوظة 2013