لعينيك وحـدكَ أنت
بقلم: نسرين ادريس
لاح أمامي عمري الذي مضى، وأنا أعبر الطريق المتعرجة
إلى ضيعتي التي غادرتها مذ كنتُ فتىً.. عبرتُ بين
الوافدين إليها بشوقٍ يمتد من ناظري إلى مداها الصافي،
أقطف في كل طرفة جفنٍ باقةً من الحب، وأزرع مع كل
همسـةٍ ضمةً من حنان...
ها قد عدتُ في وقتٍ أبعد ما كنت أنتظر فيه العودة..
رجعت بلا حقائب، أتكئ على عصىً تآخت مع إصابةٍ لن تعرف
للشفاء زمناً.. أمشي على الطريق ولا أبصر سوى تكسّرات
ظلي على الأسفلت المتشقق.. يتردد صوت الزغاريد
والتكبيرات صدى في أعماق مسامعي كأنه ضرب على طبولٍ
بعيدة، وأنا لست سوى عابر يحمل مسودة يومه الممزقة،
يبحثُ عن الماضي في سطور صارت خالية من كل شيء!.
وجدت نفسي أعبر إلى زمنٍ آخر؛ زمنٍ خبأت أيامه بين
أهداب خيالي، لأغزله بمغزل الذكريات، وأختبئ في زواياه
من الأيام التي تمر دون أن أعيشها، في لحظات الاحتراق
الداخلي.. مذّ غادرت الجبهة والسلاح، صارت الدنيا
تنقصها حياة!.
وصلت إلى منـزلنا المدّمر؛ ما أجمل البيوت نخبئ في
حناياها أحلامنا، ننقشُ على جدرانها أحزاننا، نزرع في
أحواضها شتولاً من السعادة، وزهوراً من الأمـل..لم
أستطع فعل أي شيء خلا التحديق الى الأطلال النابتة بين
حطامها الأعشاب وبعض الورود البرية، وفي كل نظرةٍ
يعشوشب في صدري حنينٌ لكل شيء.. اقتربت من حجرٍ تحت
الشجرة اليابسة المزروعة في الحاكورة، ومددت يدي بهدوء
لأرفعه من مكانه، وسحبت من تحته سُبحةً وخاتماً محفوراً
عليه: "اللهم اجعلني في درعك الحصينة التي تجعل فيها
من تريد". كان مجرد لمسي لهما كفيلاً بأن تعصف بقلبي
رياح الألم، وأن تنهمر من عيني دموع الأسى؛ ما أصعب
الرجوع بلا أحبّة.. ما أوحش الدروب تنبتُ على مفاصلها
أشواك الوحدة، تمتدُ كسياج صمتٍ يحيط بالروح. لقد وصلتُ
إلى هنا قبل "عمّار" ابن عمي، ولكني أدري أني لن أفوز
بالشرط الذي تشارطنا عليه منذ أربع سنوات، في آخر مهمة
وشمتني بإصابة منعتني من الجهـاد..
منذ أربع سنوات؛ أوكلتْ إليَّ و"عمّاراً"، مهمة رصد
أحد المواقع المشتركة بين العدو الإسرائيلي والعملاء
اللحديين الأنذال في قريتنا.. استمرت مهمتنا حوالي
عشرة أيام. وعند انسحابنا، بدأ الطيران الحربي
الإسرائيلي بالتحليق على علوٍّ منخفض، فما كان منّا
إلا أن التجأنا إلى مكان قريب من بيتنا شبه المدمّر..
عند غسق الليل أصرَّ "عمار" على أن يذهب إلى المنـزل
قبل متابعة انسحابنا، وكانت الطائرات قد هدّأت من
تحليقها؛ فاقتربنا من البيت بحذرٍ بالغ، وعندما وصلنا،
خلع خاتمه ووضعه وسبحته تحت حجرٍ قائلاً لي:
- "من يصل إلى هنا قبل الآخر ويأخذهما، يكن سبّاقًا
إلى الشهادة".
استغربتُ تصرفه ذاك، خصوصًا أننا في مكانٍ وزمانٍ غير
مناسبين أبدًا، فأجبته:
- "إذا بقينا هنا، فلن نغادر هذا المكان".
و طلبتُ إليه أن نسرع بالانسحاب، قبل أن يعاود الطيران
تحليقه المنخفض.. نظر إليّ قائلاً:
- "لستُ أدري لماذا أشعر بأنها المرة الأخيرة التي
أبصرُ فيها بيتنا. فدعني أحفظ بعضًا من ماضينا الجميل..
أريد أن أترك شيئًا في بيتنا يؤنسه قبل أن تموت بداخله
ذكرياتنا.. أنظر كيف أن طفولتنا قد أُحيطت بأسلاكٍ من
الغياب والإلغاء.. آهٍ كم دعوت الله سبحانه أن أعود
ولو مرة واحدة إلى بيتنا، فجميل أن تضمّ بيوتنا
بقايانا.. أشلاء أجسادنا.. أليس كذلك؟!".
أجبته بشيء من السخرية:
- "أشعر بأن هذه لحظاتنا الأخيرة..".
بقي مسترسلاً في تعابيره التي، فعلا، أغبطه دومًا
عليها:
- "الذكريات عطر يفوح من ورود الماضي عندما يمر نسيم
الحنين في نفوسنا المقفرة..".
تابعنا المسير في الدروب الصعبة، وفي ليلٍ لا نبصرُ
فيه إلا سواده. وبين فينةٍ وأخرى، تُطلق القنابل
المضيئة لتنير بعضاً من الأحراش الغارقة في العتمة..
لم تكن المجموعة التي بانتظارنا بعيدة عنا، ومهمتنا
شارفت على الانتهاء بهدوءٍ ونجاح، إلا أن شيئاً لم يكن
في الحسبان حصل؛ لقد سقط صاروخ بالقرب منا ألقته إحدى
الطائرات فأصبت و"عماراً"، ولم أعلم ماذا حصل إلا حين
استيقظت في المستشفى بعد غيبوبةٍ دامت أسبوعين تقريبًا،
وكان أول من رأيته هو "عمار".. كان جالسًا إلى جانبي
يحضن كفي ويرتّل بعض آياتٍ من القرآن الكريم؛ لكنّ
عينيه كانتا ملفوفتين بضمادات غاب خلفهما بصره إلى
الأبـد...
وبين تنهيدةٍ وحسرة؛ توقفت سيارة أمام بيتـنا، ترجل
منها "عمار" برفقة صديق مجاهد. اقترب رويداً رويداً،
وإذ به يتوقف، كأنه أحس بوجودي، فضحك قائلاً:
- "سبقتني؟! منذ متى أنتَ هنا؟".
- "منذ الصباح..".
اقترب وجلس بالقرب مني، مدّ يده إلى يدي:
- "لن يسبق أحدنا الآخر الى الشهادة".
- "الزمن هو الذي سبقنا..".
حمل بين أصابعه حفنةً من التراب؛ شمّها وبكـى:
- "قلْ لتلك الوهاد ألا تعتب عليّ، قلْ لتلك الجبال؛
لذاك التراب؛ للشجر والصخر؛ أن تسامحني، فإني ما
غادرتها من تعبٍ حط رحاله على كاهلي، ولا انطفأ عشقي
لها فهو يعيش بداخلي. قل لتلك الأرض إنها فؤادي الذي
أبصر به، قلْ لها إذا ما كانت عيناي انطفأتا، فإني
مبصر بحواسي لـ "قادومّياتها" سائرٌ وبوصلة دربي، نبضي
يرشدني إلى الطريق.. واسألها، لماذا لم تعانق روحي
عندما هوى جسدي مضرجاً بالدماء؟. أتراني لا استحق
الموت بين ذرّات ترابها! أتراها رفضتني لكثرة ذنوبي،
وأخذت مني بصري لأنه كان يسافر في أرجائها يمسح برؤاه
حدودها المقدسة فكان خالصاً لها!. إسألها أن تسامحني
إذا ما افتقدت صوتي وهمسي، فإني ما غادرتها، فلا مكان
لي سواها.. تلك المحاور تسكنني.. آهٍ ما أجمل صورة
النصر.. لمن هذا المدى الملوّن؟. لمن تلك السماء؟. لمن
هذا العشق؟!.
حضنته قائلاً:
- "لعينيك وحدك يا "عمّار".. لعينيك وحدك هذا المدى..".