شجرة اللَّوز

بقلم: حسين منصور
وقفَتْ أمّ حسن على شرفة المنزل الذي يطلّ على ساحة القرية، تنظر إلى النجوم تارةً، وصوب الساحة تارةً أخرى. وﭐرتسمت على وجهها علامات الرضى, ثمَّ دخلت إلى غرفتها، وﭐستلقت على سريرها.
كانت تشعر بالوحشة. مدَّت يدها إلى جانب السرير، وﭐلتقطَتْ عصا ملساء ذات مقبض مدبّب، وحملتها بين يديها كطفل رضيع، ثمَّ ضّمتها إلى صدرها، وراحت تشمّها وتقبّلها.
قال لها حسن: «خذي هذه العصا، وتوكّئي عليها، وإذا ما شعرت يومًا بالوحشة، ضُمّيها إلى صدرك الحنون، فإن الوحشة سوف تتبدّد وتزول، وتعود إليك الطمأنينة»، ثمَّ ﭐستسلمت أمّ حسن لنوم عميق هادئ.
أزهرت شجرة اللَّوز، وعادت أحلام الربيع تتربّع في الأعالي والسهول والسفوح، وﭐجتمع شمل الأصدقاء: حسن وزيد ومروان. كانت أمّ حسن تعرف أنَّ شجرة اللَّوز تشبه الكهف الذي يأوي هؤلاء الشبان، وكانت الشجرة تسمع وتفهم كلَّ شيء، وتقلد أمَّ حسن، وهي تنظر إلى الشرفة المجاورة.
كان مروان يقول: «أترى يا حسن هذه الأشجار، وتلك الدروب الملتوية هناك؟ لقد شقَّتْهَا أقدامُ أجدادنا، لتصل إلى الكروم والحقول وعيون الماء، ثمّ تركوها لنا أمانةً، كي نحبّها ونحفظها ونحميها كما صنعوا».
حسن: «سنشمّ تلك الأنفاس التي تنبعث منها، ونحيا بها في ضجيج الحقول، وعلى الدروب، حيث ننشد نشيد الماء وحفيف الشجر».
أوشكت الشمس على المغيب، فنادتهم أمّ حسن: «ها هو صوت الآذان يعلو، ولا بُدَّ من أن نصلي، ثمَّ نتناول العشاء بعد ذلك هنا، تحت شجرة اللَّوز».
إجتمعوا للصلاة كجسد واحد وروح واحدة، فصلّوا صلاةً تمتزج آياتها بتراب شجرة اللَّوز، صلاة لا تنساها الأرض بعد أن روتها السواقي التي ﭐنسكبت من المُقَل.
أنهت أمُّ حسن صلاتها، وأقبلت نحوهم؛ لئلّا يفوتها شيء، وتمنت لو أنَّها تملك آلة تصوير، حتَّى تلتقط هذا المشهد، وتحتفظ به، إذْ بَدَتْ شجرة اللَّوز محرابَ سكينة وصفاء. شاهدت أمُّ حسن هذا العشق الملتهب، وشعرت بسعادةٍ، فقالت: «ستكون السهرة تحت شجرة اللَّوز لذيذة ومنعشة وممتعة، وستكون مُشْبِعَةً أيضًا، ولكن لم أتمكّن من شراء اللحم لنشويه في هذه الأمسيّة، إلَّا أنَّني أحتفظ بما تمنحنا إياه الأرض في لحمها: «كبّة بندورة مع الكمونة»، وسلطة زعتر تأكلون أصابعكم وراءها، وسأدعمكم بإبريق شاي«ولعان». ما رأيكم يا أحبتي؟».
ويجيب زيد: «سلمت يداك يا أمّ حسن، هكذا تكون الأمّهات».
ومضت الأيَّام، ووجدت أمّ حسن نفسها في أحد أيَّام تموز، وهي تجلس وحدها. كانت تضع في يدها حبّة لوز، وتطيل النظر إليها، وكأنَّها تسمع منها صوت حسن يقول: «سأترك لك قلبي في حبّة اللَّوز البيضاء، عندما أذهب إلى مرج البقاء الأخضر».
أصوات زغاريد تعلو من ساحة القرية، وصوت المذياع يبثّ بيانًا للمقاومة على وقع الأناشيد الحماسيَّة: «تمكَّن رجال المقاومة من أسر جنديّين صهيونيّين...»، والفرحة العارمة تعمّ القرى والمدن، والناس يخرجون إلى الشوارع، ويوزّعون الحلوى.
إجتمع حسن وزيد ومروان عند قصرهم «شجرة اللَّوز»، وصلّوا صلاة النور والأرجوان. كان هذا كلّ ما يحتاجون إليه: مسكن عطر، وبقايا ماء من زمن العطش.
وﭐفترق الإخوان بعد أن جدّدوا البيعة والعهد لصاحب الوعد، فتوجّه حسن وزيد، ليقطعا زعانف الحوت عند المثلث، وصعد مروان إلى «السدر»، ليضرب الرأس إذا ما تسلَّل من جهة عيترون، وهاج البحر وماج، وبدأت حرب مفتوحة.
وعادت أمّ حسن إلى الضيعة، ووقفت قبالة بيتها المهدوم. لقد سقطت حجارة البيت على شجرة اللَّوز، وغطّتها بغبار الركام الثقيل. وكأنَّ أمّ حسن سمعت صوتًا يناديها من بين الحجارة: «لقد تأخّر مطر أيلول ليغسلني من حرقة جلدي، وأنا الآن أتيمّم بغبار ركام منزلكم. سامحيني يا أمّ حسن، سأصلّي هنا مع الذكريات التي أحضنها في قلبي المجروح».
حلَّ المساء، وإذا بأمّ حسن تلمح أضواء قناديل تتحرّك في ساحة الضيعة. أمعنت النظر، وقالت: «يا الله! هذا حسن ومروان وزيد». فركت عينيها، إنَّه ولدها وصاحباه. إندفعت نحوه، فٱرتمى في حِضْنِهَا، ثمّ حَضَنَهَا، فحضنتْهُ مثلما لم يَحْضِنْ أحدٌ أحدًا، وغمرتْهُ بكلّ ذاتها وكيانها، حتَّى كاد أن لا يظهر منه سوى هالة نوره، وأرادت أن تبقى معه هكذا إلى الأبد، حتَّى تشيخ وتهرم وتموت، وهو في حضنها. لم تعد ترغب في أن تتركه يبتعد عنها. لقد عاد، فيا لفرحتها وسعادتها بهذا!
وﭐستفاقت أمّ حسن من نومها مستوحشة. شعرت كأنَّها نامت سنة كاملة، ولم يخطر في بالها سوى أن تمسك بيديها عصا، وأن تضمّها إلى صدرها، وتقبلّها قُبْلَةَ الشوق الذي تحنّ إليه شجرة اللَّوز، وهي ترتدي ثياب النوم، وقلوبُ حبّاتها البيضاء مملوءةٌ بالعنفوان والإباء؛ لتعيش من جديد، وتنجب أطفالًا، وتسّميهم بكلّ الأسماء المكتوبة والمحبوبة، وتسّميهم «الوعد الصادق».

بإشراف الجمعية اللبنانية للسياحة والتراث

All rights are preserved ©جميع الحقوق محفوظة 2013