القرنفلة الصفراء
بقلم: حسين منصور
أصبحت وحدك يا أمّ علي، منذ شهر أو أكثر، لا أنيس ولا
جليس. كلّ ما فعلته أنّك بقيت في بيتك، ولم تلتحقي
بركب المهجّرين من أفراد عائلتك. بقيت قرب الألم،
وأقحمت يدك في الأرض، تستولدين منها الخيرات؛ لتبقى
حيّة وشاهدة...
ماذا تنتظرين يا أمّ علي؟ وماذا سيحصل يا ترى؟ لقد
طلبوا منك أن تتصلي بزوجك وأولادك؛ ليعودوا إلى القرية،
وأنّهم سيكونون بأمان، شرط أن يتعاملوا معهم وإلاّ...
اشتدّ حزنها وهي تحدّث نفسها بهذا الحديث، وتمنّت في
هذه اللحظات التي تخلو فيها الى نفسها في الباحة
الخارجية الموجودة أمام البيت، لو أنّها تمرّنت على
استخدام البندقية، أو أنّها اقتنت واحدة، كما كان يطلب
منها زوجها.
كلّما سمعت بالأنباء التي ترد عن عمليات المقاومة،
تمتلىء بالأمل، وتستمدّ منها قوّة وشجاعة. شعرت أنّها
تحمل جبلا على كتفيها، فجلست لترتاح قرب قرنفلتها
الصفراء المدلّلة بوجهها الواسع كوجه البدر.
لم تكد تستريح قليلا حتى سمعت هديرا قادما من بعيد!
انّها تعرف هذا الصوت! وقفت منتصبة كالرمح! أحسّت بندى
الحقل يأتي من ناحية "النقعة " يلفح وجهها، استطاعت أن
تلتقط بعض رائحتها، لكنّها ركّزت نظرها صوب الطريق
العام؛ حيث توقّفت سيّارة عسكرية، تتبعها سيّارة
مدنيّة. ترجّل من الأولى إثنان من جنود الإحتلال، ومن
الثانية ثلاثة رجال من "الآخرين" ، فدمدم وجه أمّ علي،
واكفهرّ، وبدأ يومض بالغضب.
توجّهوا نحوها، وهم يحملون أسلحتهم الرشاشة، تقدّم
أحدهم منها، وقال بصوت لئيم: "يبدو أ نّك لم تفهمي ما
طلبنا منك، ويبدو أنّك لن تتعاوني معنا؟" توهّجت أمّ
علي وشمخت، نظرت إليهم بازدراء، ولم تردّ عليهم، فعلام
تساومهم؟ على أوهامهم البالية؟ أم سلطتهم الواهية؟ لا
طاب العيش معهم ابدا!
- ألن تقولي شيئا؟ نحن نمنحك الفرصة الأخيرة؟
- إنّ الكلام لم يعد ينفع، وليس لدي ما أضيفه.
- ردّ واحد منهم بلؤم وقسوة: إذن لن نسمح لك في البقاء
هنا "انقبري " وادفعي ثمن سكوتك هذا، واخسري كلّ شيء.
ثم دفعها نحو السيّارة. انحنت بسرعة نحو القرنفلة
الصفراء، استطاعت
- ان تلمسها، وأن تلتقط حفنة تراب، أبقتها في يدها،
وأُرغمت أخيرًا على الذهاب... وصلت إلى أحد البساتين
الساحلية حيث باتت تقيم عائلتها بعد تهجيرها.
نهض أبو علي من مكانه بعد أن تناول فطوره، وقال لها:
سأعود عندما أنهي سقاية أشجار الجهة الغربية من
البستان.
- بحفظ الله ورعايته يا أبا علي.
كانت تنتظر خروج زوجها من البيت؛ لأنّها عقدت العزم
على مواجهة ابنها قاسم، كانت أفكارها قلقة من أن تسمع
منه الاجابات نفسها التي اعتاد عليها. وأدرك قاسم من
نظرات أمّه التي بدأت تقتحمه، أنّ عاصفة الأسئلة توشك
أن تبدأ، وكأن رجال المباحث قد أوكلوا مهامهم الى أمّه،
فتهيّأ للهروب والفرار من الغرفة ولكنّها سرعان ما
أمسكت به:
- تعال الى هنا، لقد غبت عنّا ثلاثة أيّام، فأين كنت
يا نور عيوني؟
- كنت في القرية المجاورة، عند رفيقي باسم، ندرس
سويًّا استعدادًا للإمتحان، ألا تريدينني أن أنجح؟
فهذه فرصة للفوز بالحياة كلّها، وأنا راغب في أن أفعل
ذلك! فلا تخافي، ولا تقلقي،
وهوّني عليك.
بدا كلام ولدها غامضا! ابتلعت ريقها، وتابعت أسئلتها
بلهجة رقيقة عذبة:
طبعا، أريد أن أفرح لك يا ولدي! وأنا أتوقع ذلك، وفي
هذا نفعنا جميعا، ولكنّ قلبي ينبئني بأنك لا تقول
الحقيقة! بالله عليك، أخبرني، أين تذهب؟ وماذا تفعل؟
انّ الظنون تنهشني، وأخاف عليك من رفاق السوء وما
أكثرهم في هذه الأيام.
- هذه أوهام يا أمي، أنا لست واحدا ممن تظنين!
- وهل تعلم ماذا أظن؟ أم تراك تخشى ذلك؟ ان والدك قد
سار على هذا الدرب، ولكن لا أدري لم أصيب باحباط بعد
دخول العدو الصهيوني الى قريتنا، ولا يزال غارقًا
بصدمة عنيفة؟ ولذا هو يطلب مني أن أمنعك من المبيت
خارج البيت. هل تفهم هذا؟
احتفظ قاسم بسره، فهو يدرك حيرة أمه تماما، ولن يدع
مشاعرها تؤثر عليه، فبادرها قائلا:
أعتقد أن التهجير قد أثّر عليكِ وعليه.
اهتزت أم علي لسماع تلك الكلمة، فتحركت عندها الذكريات
في حيوية دافقة، ودفعت بها الى الباحة الخارجيّة، فبدت
وكأنّها تسمع الأصوات التي تركتها هناك، أو كأنّها ترى
خيالات الأشياء، وهي تقبل نحوها. شعرت بانقباض في
صدرها، ولكن رقة الذكريات كانت أقوى، فتبلّل خداها
بدموع الشوق والحنين، واستغل قاسم حالة الذهول التي
أصابت أمه، وخرج من الباب الخلفي قبل أ ن يرى الدموع
في عينيها، واختفى بين أشجار الليمون.
توجّهت أمّ علي إلى احدى زوايا الباحة، حيث تمركزت
الموقدة الحجرية التي وضعت عليها آنية الغسيل، وقد
تسارع بخار الماء متصاعدا من داخلها، أمسكت ملقطا
خشبيًّا، وأخذت ترفع قطع الثياب من الآنية وترميها في
"الطشت "، ثمّ قعدت على أحد الأحجار قبالة "الطشت"،
وشرعت تغسل الثياب بيديها.
التقطت بنطلونا لقاسم، وأخذت تدعكه وتفركه بقوة
بيديها، ثمّ تغمسه، وترفعه في ماء "الطشت". نظرت اليه،
فرأت أنه لم ينظف. أعادت الكرة ثلاث مرات من غير جدوى.
أمعنت النظر جيّدًا، فوجدت أن اللون القاتم ظلّ كالوشم
على البنطلون، ولا يرغب أن يفارقه. حدّقت بامعان!
اللون الذي لا يزول؟ "إنّه هو، تراب "النقعة" لا
يُنسى، بل لا يمكن أن يُنسى. إنّ أثره يبقى ظاهرًا
مهما نظّفته بالماء الساخن، ومهما عالجته بالمنظّفات!
أنا أخبر الناس به. يا الله! أهذا معقول؟
"تراب "النقعة" على بنطلون قاسم". ردّدت هذه العبارة
عدّة مرّات، واستغرقت بدهشة عجيبة
مذهلة.
استيقظت في الصباح التالي، ولم تفارقها هذه الدهشة:
"هل أصبح قاسم رجلًا إلى هذا الحد؟" وقع نظرها فجأة
على صحيفة قديمة لفّت على شيء ما! أخذتها بيديها،
فتحتها، كادت المفاجأة تسقطها أرضا: "باقة " من
قرنفلتي! قرّبتها من صدرها، من وجهها، تشممتها. أغمضت
عينيها وصورة قاسم فوق رأسها غمامة.