|
القصص الواردة هي قصص وحكايا حقيقية حصلت مع
المجاهدين خلال فترة الصراع مع العدو الاسرائيلي |
|
|
|
|
|
|
دربان
- حكايا
عودة |
بقلم: عبد القدوس الأمين
علامَ كلُّ هذا الحزن؟.. سؤال ظلَّ يتردَّد في مسمعه منذ خروجه
من مملكته.. يكاد يتعثَّر فوق الحجارة المرصوفة على مدخل
منزلهم القديم... أمتارٌ قليلة تفصله عن بهو الاستقبال، ظنَّ
أنَّه لن يصل إليه، سعى بلا حماسٍ ظاهر، إنَّ شيخًا تجاوز
الثمانين أكثر نشاطًا منه. أربعون عامًا هو عمره الذي يكرهه
كما لم يكره شيئًا من قبل. انفتح الباب بعد صراعٍ مع المزلاج
طال، أو هكذا خُيِّل إليه علامَ كلُّ هذا الحزن؟ دَلَفَ إلى
البيت، فامتلأت رئتاه برائحة الزمن القديم... كان كلُّ ما في
المنزل يدعو إلى الصمت بإغراءٍ شديد، الستائر، والأثاث القديم،
حتى النور الذي استطاع أن يتسلَّل من النوافذ دخل خائفًا
يترقَّب... تعثَّرت قدماه بالكرسيَّ الهزَّاز الذي ما زال يربض
تحت النوافذ الطويلة، ما أسهل أن يرى أباه وهو يمتطيه! نَفض
رأسه، إنَّه مشهد غير وَدود، ما كان يربطه بأبيه سوى خوفه من
عدم رضاه، رغم أنه الولد المقرَّب، هذا الشبل من ذاك الأسد،
كما كان يحلو لأبيه أن يقول. كان الأسد قاسيًا لا رحمة في قلبه،
بل لا قلب ولا يحزنون، وكان كما أراد له أبوه أن يكون، لا طاقة
له باسترداد ماضيه، إنَّه اجترارٌ مقيتٌ، فرَّ هاربًا إلى
الفِناء الغربيّ، مرتع طفولته علَّه يأنس بأشجاره العتيقة علام
كلُّ هذا الحزن؟ إتجه إلى آخر الفِناء حيث التينة العجوز وقد
ازدادت شموخًا حتى إنَّ أغصانها قد ظلَّلت قبرًا في الجبانة
المجاورة، جلس في ظلِّها على الصخور الفاصلة بين الفناء
والمقبرة علامَ كلُّ هذا الحزن؟ ما بك يا سعيد؟. ابتسم سعيد
بمرارة. ستظلُّ الأسماء نقيض مسمَّياتها، فقد كانت محاسن هي
الأقبح بين أقرانه. أمَّا هادي فهو عاصفة هوجاء لا تُبقي ولا
تذر... وهو سعيد، أدار برأسه ساخرًا نصف دورة... التعاسة، هذه
الغيمة السوداء التي تكاد تُطبق عليه، امتصَّت ألوان دنياه حتى
غدت لا لون لها، ولا طعم، ولا رائحة، دنياه غدت كقصرٍ مهجورٍ
تعصف به الريح علام كلُّ هذا الحزن سؤال ظلَّ يرهقه ويضنيه...
إنه اكتئاب حادٌّ، والجواب لديك، قال الطبيب، وأردف: حين تجده
تكون قد شُفيت. أحنى رأسه المثقل حتى لاصق صدره، كمن يجهد في
النظر إلى جوفه.. جوفه بئرٌ معطَّلةٌ، والسواد حالكٌ شديد
اكتئاب حاد والسؤال صخرة مهولةٌ تجثم على فم البئر، والجواب
كلماتٌ سحريَّة، دمدم سعيد ساخرًا... إفتح يا سمسم... السؤال
صعب: لِمَ كلُّ هذا الحزن؟ علامَ يا عمري البارد أجبني.. علامَ..
كان كلَّ ما يريده منزلٌ كبيرٌ، والمنزل صار منازل، في غير بلدٍ..
ماذا يريد؟ مالٌ يكفيه حتى مماته.. عنده الآن ما يكفي مدنًا
لمئات السنين... ماذا يريد؟ إسمًا.. إسمه أشهر من نارٍ على برج
إرسال... رمى بظهره على الصخور الخشنة.. علام كل هذا الحزن
إذًا؟ جال ببصره في الفِناء، لا شيء يُجدي... سقطت ذراعه، أحسَّ
ببعض الحصى تحت يده، جمع أصابعه، رفع يديه بضعفٍ، سيرجم أمسه
ويومه والأرض التي تأويه، لم يجد حماسًا.. عبثٌ وإحباطٌ انزلقت
الحجارة من بين أصابعه ثم استقرَّت..
تناهى إلى سمعه أصوات تقترب، ممزوجة بوقع أقدامٍ بطيئة الخطى
تجرح الصمت، همهمات رجالٍ ونساءٍ وأطفالٍ أيضًا، انزلق منخفضًا
وراء الصخور... الأصوات تقترب وتعلو ثم تمتدّ.. نظر من فتحاتٍ
بين الصخور.. إنَّه يوم الخميس، تلك عادة أهل قريته إذ يختمونه
بزيارة القبور.. مسح الجبانة بعينين ملتاعتين، تلوَّنت الجبانة
بألوانٍ شتى من ثيابٍ وزهور... بدؤوا من كلِّ حدبٍ ينسلون..
يتجمعون عند المدخل الحديديَّ الواسع ثم ضاق بهم، دلفوا كقفير
نحلٍ، استقبلتهم الجبَّانة بصدرها الواسع فانتشروا، زرافات
ووحدانًا.. توزَّعوا على القبور بين جالسٍ وواقفٍ، وآخرون
يحومون كمن يبحثون.. يمرُّون على بعض القبور سريعًا ويطيلون
على أخرى.. لكلِّ قبرٍ حصَّته من الوافدين... إلاَّ قبرًا
واحدًا كان له النصيب الأوفر، بل كان له كلُّ النصيب... كان
يحتشد حوله عددٌ لا يُحصى، كأنَّه الزهرة الأطيب رحيقًا.. لاحظ
سعيد أنَّ كلَّ من في الجبَّانة يمرُّ به إما ابتداءً أو في
خاتمة الطواف، بل إنَّ بعض الزائرين يأتون إليه مباشرة كفراشاتٍ
عمياء... ولأنَّ هذا الحشد هو الأقرب إليه ازداد انكماشًا
واختباءً... حدَّق في وجوههم، ورأى ما لم يرَ في حياته، ملامح
تحمل... بل هي طافحة بالودَّ والعرفان بالجميل.. نظرات حبًّ لم
يألفها وكأنَّهم أقاموا على أجمل ما في الدنيا.. إنَّ في
عيونهم دموعًا.. بل يتناهى إلى سمعه أصوات نحيبٍ وكلماتِ رحمةٍ
وحبًّ، أسفٍ ومرارةٍ أيضًا... وإنَّ فيها من الصدق ما لم يعهده...
إنَّه خبيرٌ بالمجاملات يعرف أصولها ومخارج الحروف، وكيف تنطق
وعلام وأين... إنَّ ما يسمعه غير ذلك، كانت الكلمات تخرج من
الداخل دون أن تمرَّ باللسان، تخرج مجبولة بل تقطر بانفعالٍ
إنسانيٍ غريبٍ... عجيبٌ لهؤلاء القوم، لِمَ كلُّ هذا؟ ثمَّ ما
الذي يأملون؟ إنَّهم ينسفون الميزان الذي اعتاد أن يزن به
الأفعال وردود الأفعال، ميزان الربح والخسارة، هذه الحشود ما
الذي تجنيه من هدر هذه الطاقة وهي تنهال مع الورود على هذا
الجماد كالمطر الإستوائي؟
ظلَّ سعيد مبهورًا وجلًا، وقد اقشعرَّ جسده رهبةً ممَّا يرى
ويسمع... بدأت الشمس بالمغيب، والقفير يتقاطر عائدًا إلى
خلاياه، والجبَّانة تخلع أثوابها الملوَّنة، إلاَّ من بعض
الزهور هنا وهناك.. وأغلبها اجتمعت على القبر العجيب.. دارت
عينا سعيد على المقابر ثم عادت إليه.. هدأت هناك كأنَّها
تستريح.. كأنَّ هذا القبر، وهو مكلَّل بهذا الحشد من الألوان،
كقائدٍ متوَّجٍ بفتحٍ عظيم.. حتى إنَّ رائحة لم يشمَّها من قبلُ
امتدَّت من بين الصخور وملأت رئتيه عبيرًا غريبًا، عساه يكون
من حشد الزهور، هذا المزيج الساحر، هذا النسيم العليل.. أحسَّ
ببهجة تمتدُّ من القبر وتفترش المكان، تناهت إلى سمعه زقزقة
العصافير وهي تؤوب إلى أعشاشها مع الغروب، والأغصان التي
تظلِّل القبر تحمل العدد الأوفر والتينة العجوز، حتى التينة قد
انحازت إليه فامتدَّت على غير نظامها... أَوَهمٌ كلُّ هذا؟ حتى
أشعة الشمس تتكاسل عليه، أو كأنها تجاهد في سحب آخر خيوطها
المتباطئة، كأطفالٍ يماطلون في العودة إلى منازلهم. وحين تفلح
الشمس بعد جهد بالمغيب، يظلُّ هناك ضوء ينسكب على الرخام
الأبيض، سعيد لا يدري مصدر الضوء، أهي أعمدة النور على ناصية
الشارع البعيد؟ أم أنَّ مصدرًا آخر ليس يراه؟ تلبَّس الذهولُ
عيني سعيد.. قلبه أصيب أيضًا.. بل سرى الذهول إلى قدميه.. كأنَّ
قوَّةً قاهرة حملته على الوقوف، بل دفعته ليتخطَّى الحاجز
الصخريّ، مشى سعيد كالمسحور خائفًا مأخوذًا باتجاه القبر، ما
الذي يحدث لي؟ فكَّر سعيد: أهو حبُّ الاستطلاع؟ أم أنَّ آلاف
الحبال غير المرئية تشدُّه إليه؟. حشد من المشاعر غير المألوفة
تغالبه وتغلبه، سعيد محمولٌ على أجنحة الذهول، قدماه لا تكادان
تطآن الأرض.. ماذا عساه يرى؟. علامَ..؟ ومن أين..؟ وكيف؟ ما
سرّك يا صاحب القبر العجيب؟ لغز عظيم هذا الذي هو مقبل على كشف
أغواره، كلُّ شيء في سعيد يتفتح كشبابيك قرى تستفيق، عيناه،
فمه، حتى قفصه الصدريّ، مسامُّ جلده، أوردته والشرايين كلُّها
مفتوحة على ألف احتمال في استقبال الاكتشاف الجديد. انحنى بكله
المفتوح مبهورًا مقطوع الأنفاس على القبر.. يمسح عنه الزهور..
وكمن ينظر إلى صندوقٍ عالج أقفاله طويلًا، اقتحمت عيناه الرخام
الأبيض «الفاتحة... رجال صدقوا... الشهيد..» ضرب سعيد جبهته
بيده كمن تذكَّر للتوِّ شيئًا نسيه، الشهيد.. انفجر الجواب
نورًا ساطعًا باهرًا لا لبس فيه.. أغمض عينيه كمن يحميهما من
نور باهر، وسريعًا التفت إلى مقارنة لا يدري كيف غابت عنه..
مقارنة بين دربين: دربٌ طويلٌ شائك بغيض، درب الموت الذي سلكه
سعيد، ودربٌ قصيرٌ زاهرٌ حميم، درب الحياة ذاك الذي سلكه
الشهيد. دار شريط حياته بسرعة هائلة، كأنَّ نور الكشف اقتحم
بئره الخاوية، رأى حياته بكلِّ دقائقها البغيضة، بكلَّ موتها
البطيء، إنَّها ركض طويل، أوَّلًا باتجاه قمَّةٍ شاهقة.. عيناه
أبدًا عليها، وعن اليمين والشمال رجال ونساء وأطفال.. سعيد لا
يلتفت.. أقارب وأصدقاء.. مشاعر شتى تتكسَّر تحت قدميه كأغصان
يابسة، أواصر تتفلَّت ونداءات تتلاشى.. وسعيد لا يلوي على شيء،
نظره مصلوب على القمَّة، لأجلها يهون الصعب، كلُّ ما لديه
سلَّم للوصول، شخصيَّته المحبَّبة القويَّة الحضور، ذكاؤه
الحادّ، أدبه الجمّ وابتسامته، حديثه الآسر، وقدرته على
الإقناع، علاقاته المنوَّعة المتشعّبة، كلُّ شيء من أجل
المجد.. من أجل تلك القمَّة، حتى قلبه جعله حجرًا تحت قدميه
يرتفع به ليزداد اقترابًا، لكم نزفت مشاعره وخبت أضواء روحه،
وفرَّت من شفتيه الضحكة الجذلى.. وغامت ألوان دنياه الزاهية.
لا بأس، كذا كان يقول.. حين يصل ويتربَّع على عرشها سيستعيد
بالمجد كلَّ شيء، هو دَيْنٌ عليه، سيوقف النزف ويضع زيتًا
لكلَّ القناديل، بالمجد سيضحك ملء فيه، بالمجد سيصبغ دنياه
بألوان ألف ربيع.. وصل سعيد.. وكاد يرتمي على القمَّة الغالية،
يا لهول ما رأى!!! انكشفت أمامه قمة أخرى شاهقة مهولة
الارتفاع، حتى إنَّ قمته التي هو عليها ليست إلاَّ حجرًا في
قعر واديها السحيق.. إغراء شديد.. وجاذبيَّة لا تقاوم، قمة يجب
الوصول إليها.. دبَّ النشاط وانطلق سعيد مرَّة أخرى بأسرع
ممَّا كان وبأقصى الإمكان.. تلك هي القمَّة التي يجب أن يستريح
عليها، لن يتوقَّف سعيد حتى يصل إلى القمَّة الحبيبة.. و.. ولم
يصل سعيد إلاَّ إلى قممٍ أودية، وركض طويل لا ينتهي.. نضبت
مشاعره وانطفأت معها أضواء روحه، وتاهت الضحكة الجذلى،
وامتدَّت سحابة سوداء لم تبقِ لدنياه لونًا ولا طعمًا ولا
رائحة. الآن أدرك الخطأ الذي أرداه جثَّة هامدة.. تذكَّر الآن
جملة، تختصر كل ما فعله وما آل إليه، جملة لعليًّ أمير
المؤمنين: «من لم يكتف من الدنيا بأيسر ما فيها، لن يكفيه كلُّ
ما فيها».. هنا كان قتلي، صرخ سعيد ثم انفجر باكيًا.. سيَّدي
يا صاحب القبر العجيب، كنتُ أرى الانتماء عائقًا، والصداقة
قيدًا، والتضحية هدرًا للطاقة، والمساعدة عبئًا، والعطاء
سفهًا.. أمَّا أنت فكنت تعطي، ثم تعطي، ثم تأنس فتزداد عطاءً..
ثم تستقلُّ عطاءك، وحين لم تجد أغلى من دمك وروحك، وهبتهم
كُلَّك فاكتملت، وها أنت على قمَّة القمم.. قمَّة لم أكن
لأبلغها بألف عمر، آهٍ يا سيَّدي.. لكم أمقت عمري المهدور..
آهٍ يا سيَّد الأحياء آهٍ.
لم يعد يستطيع التوقُّف عن البكاء، لقد بكى قضاءً عن كلَّ عمره
الذي لم يبكِ فيه.. امتلأت أخاديد الأحرف الرخاميَّة لكلمة
الشهيد دمعًا حتى فاضت، لكنه ظلَّ يبكي، وشهقاته تتوالى،
ونشيجه يمتدّ، يشق عباب الليل، حتى اختلط بكاؤه بأصوات عصافير
أفاقت، وصوت أذان تبعده الرياح وتدنيه، وصوت ديوك بعيدة مختلفة
الإيقاع متناوبة... كان لحنًا يعزف لأوَّل مرََّة، مجتمعًا دون
نشاز، مع صوت بكاء واهنٍ تعب.
يا سيَّد الأحياء.. قال سعيد، وبصوت رائقٍ لم يعهده من قبل ها
أَنذا يا سيدي أحبو على دربك وليدًا.. وبي بعض ما اعتراك..
سلالي ملأَى، وقلبي طافح بالودّ، مسح عن خده بالرخام الأبيض
بقايا الدموع موقعًا بشفتيه على العهد الجديد، ولك يا معلَّمي
كلُّ امتناني.. قال سعيد وفتح عينيه، نظر إلى بئره الداخليَّة،
رأى براعم تتفتَّح وقطرات ماء تتجمَّع، وعصافير تبدَّل زغبها
ريشًا وأخرى تتعلَّم الطيران، رفع رأسه باحثًا.. عن سحابة
سوداء فلم يجد سوى سماء صافية رحيبة وسعت كلَّ شيء.
|
فَتَّةُ خُبْزٍ - حكايا
عودة |
بقلم : حسين علي منصور
عصر يوم الإثنين، في أواخر شهر أيَّار، كان عليّ وأحمد وحمزة
يرتاحون تحت أشجار الزيتون في أحد الكروم الواقعة في خراج بلدة
«عيتيت»، بعد أن عادوا من مهمّة قد أنجزوها.
كانوا قد ﭐختلسوا النظر إلى بلدة «حانين» المسبيّة، ومرّغوا
أجسامهم بأطراف ثوبها، وغبار ترابها، ثمَّ جلسوا هنا في هذا
الكرم، يعيشون الحنين، ويكتبون الرسائل المخفيّة للأرض التي
تنشّقوا رائحتها، و«للزعتر» الذي لاقاهم بزغاريده، ولِبُحَّةِ
حفيف الشجر وغصته؛ لأنَّه لم يأنس بهم طويلًا.
أسند عليٌّ ظهره إلى إحدى الأشجار، ثمَّ مدّ رجليه، ووضع كفًّا
على كفٍّ في حضنه، وﭐنصاع يتأمّل المكان، وينظر إلى التلّة
التي تقابله من جهة الشرق، فقد كانت «حانين» تغيب وراءها.
لاحظ عليٌّ صَفَّيْنِ من النمل، يتحرّك كلُّ واحدٍ منهما بـﭑتجاهٍ
معاكس للآخر، إذْ يمتدّ الصفّ الأولّ من جدار الحجارة المرصوفة
فوق بعضها، متوجّهًا إلى ثقب قريبٍ منه في الأرض، ويخرج الصفّ
الآخر من الثقب، متوجّهًا نحو الجدار، ولكنَّ جميع أفراد
الصفّين تدخلُ وتخرج من غير أن تحملَ معها شيئًا.
غيّر عليٌّ وضعيَّة جلوسه، فتربّع في مكانه، وأخذ يتساءل: لِمَ
يعود النمل إلى الثقب خالي الوفاض، على الرغم من وجود القشّ
والورق وغير ذلك؟ لَفَتَهُ هذا الأمر، وأثار ﭐنتباهه توقُّفُ
بعض النملات وﭐقترابها من بعضها، حيث أخذت تتلامس، وكأنَّ كلَّ
واحدة تداعب الأخرى، ثمَّ تعود إلى مكانها ومجموعتها التي مالت
عنها.
لقد تذكّر أنّ في جعبته كسرة خبر، فمدّ يده إليها، ثمَّ أخرجها،
وأخذ يفركها بيديه، وقد بدأ يرمي ذلك الفتات الصغير إلى النمل.
توقَّف النمل عن الحركة عندما لامست تلك الفُتاتات الأرض، ثمَّ
ما لبثت بعض النملات أن ﭐقتربت منها، وبدأت تتحسّسها بأيديها
وأرجلها، وتقلبها، ثمَّ تلتصق بها من دون حركة، وكأنّها تشمّها،
ثمَّ تقبل عليها، فتحملها بفكّيها، وتذهب بها نحو الثقب،
وتختفي في داخله.
كان عليٌّ يراقب ما يحصل بدهشة وفرح، ويرى كيف يسارع النمل إلى
ﭐلتقاط فتاتِ كََسْرَةِ الخبز؟ وقد ذهب عنه الملل والضجر، ودبّ
فيه نشاط مذهل، وحصل على الزاد الذي كان يبحث عنه من غير عناء
أو تعب.
يا إلهي! هناك أمر عجيب آخر يحدث. لقد ﭐمتنع بقيّة النمل عن
التوجّه نحو الجدار، وها هو يجتمع في المكان الذي رمى فيه عليٌّ
فتات الخبز. إنَّه يتحرّك بشكل مختلف، فيتهامس، ويتلامس مع
بعضه البعض بسرعة مذهلة، وكأنَّه ينتظر من عليّ أن يقدَّم له
المزيد.
كان أحمد وحمزة يراقبان هذا المشهد، وقد لاحظا كيف ﭐلتقط النمل
أثر بريق المحبّة في فتات الخبز الذي رماه عليّ عليه؟ وكان ذلك
أشبه بمناغاة طفل لأمّه، أو حقل لزرعه، أو وردة لنداها. إنَّه
شيء يشبه الخروج من سجن الأشياء إلى فضاء الحرية، حيث نكتشف
العلاقات والروابط، ونذوب فيها.
وعاد عليٌّ، ودفع ما تبقّى في يده من فتاتٍ إلى النمل، وﭐستخدم
النملُ لغتَهُ التي لا نسمعها، ولكنَّنا ندركها بوضوح من خلال
الحركات التي تمليها فطرته. حمل الفتات، وﭐندفع به، حتَّى ﭐختفى
داخل الثقب.
- أحمد: يا سبحان الله! هذه الفطرة لو طردْنَاهَا من عالمنا
وحياتنا، فلسوف تطردُنَا من عالمها وحياتها، وتحتجبُ أسرارها،
فلا تجد من يفتّش عنها.
- عليّ: إنَّه الإختيار يا صاحبيَّ، فهو الذي يحدّد المصير،
ويحدّد الطموح. الإختيار جعلني أخرق سكون اللغات، وأبني علاقة
مع هذا النمل بقليل من الفتات.
- حمزة: لولا حرارة القلوب، لدسْنَا هذا النمل بأقدامنا،
وسحقْنَا أحلامها وحياتها من دون رحمة، ومن غير أن نحسّ
بوجودها.
- عليّ: هيَّا بنا، إنَّ الإخوان ينتظرون حضورنا.
في عصر يوم الجمعة من شهر آب، عاد حمزة وأحمد إلى كرم الزيتون
في «عيتيت» من مَهَمَّةٍ أنجزاها، وكانا قد ﭐختلسا النظر إلى
بلدة «رشاف»، ومرّغا جسميهما بأطراف ثوبها.
أسند حمزة ظهره إلى إحدى الأشجار، وتربّع في مكانه، ثمَّ أخرج
من جعبته كسرة خبز. راح يفركها بيديه، ثمَّ ألقى الفتات على
الأرض، فـﭑجتمعَ النملُ عليها، وﭐشتعلَتْ حرارةُ القلوب.
• الجزء الثالث من سلسلة «قلم رصاص» / موسوعة نصر لأدب
المقاومة / إصدار الجمعية اللبنانية للفنون – رسالات.
|
مُحَيْسِن - حكايا
عودة |
بقلم: عبد الودود الأمين
محيسن والحبُّ قرينان منصهران في بوتقة واحدة، بعيدًا عن العقل
الجَبَان وترّهاته والتعسفية.
محيسن لا يُتقِنُ سوى صنعة الحبّ، بل لا يعرف من هذه الحياة
سوى الحبّ، فالقلب فقط سيّد الحياة. يقيس كلَّ الأشياء بالحبّ،
يبيع ويشتري بالحبّ، والحبّ هو العملة الوحيدة التي يعترف بها.
يذهب إلى بائع الخضرة، ويقول:
- «أنا حبّك، أعطني ليمونة».
وإلى السمَّان..
- «أنا حبّك، أعطني هذا وهذا»، ويشير بيده الكالحة إلى
البسكويت والبيبسي. يحمل مجموعة زهور وأشياء يجدها في البرية،
يعطيها لمن يراه في الطريق.
- «أنت حبّني، خذ هذه الزهرة».
- «أنت حبّني، خذْ هذه»، ويعطيه قطعة زجاج ملوّنة.
لكنَّ حُبَّهُ للأطفال يفوق كلَّ شيء، فهو يجمع لهم أشياء
غريبة، يلتقطها من الحقول والمغارات، ويوزّعها عليهم. يفرحون
به عندما يرونه، ويدعونه إلى اللعب معهم، على العكس تمامًا من
كلِّ أمثاله، فأمثاله أكثر ما يقضّ مضاجعهم الأطفال.
أمَّا عن العشق والغرام، فحدّث ولا حرج، فقد يهيم في اليوم
الواحد بأكثر من أميرة، وليس كمثله عاشق يجيد ٱنتقاء الأميرات.
ما من صبيّة جميلة في القرية نجا قلبُهُ من سهامها. كم قرّح
السهاد جفنيه، وجفى الكرى عينيْه. وهل في القرية عينان جارحتان
لم تثخناه طعنًا؟! وهل من قدٍّ ممشوقٍ لم يأسرْ فؤاده؟! إنَّما
هو ذلك الأبله المستهام، وهنَّ لا يتهرَّبن منه، بل على العكس
يُمازِحْنَهُ ويلاطِفْنَهُ، على الرغم من شكله الغريب، وهيئته
التي تبعث على التقزّز، ولعابه الذي لا يتوقّف عن السيلان،
ولكنَّه يمتلك روحًا مرحة، وظلًّا خفيفًا؛ وهذا ما يشفع له
لديهنَّ.
الفضاء والبراري صومعته التي يتنسّك بها، فيمارس هنالك طقوس
عشقه، وينال وطره من الحريَّة. يتعبّد لخالق تلك الطبيعة
الخلَّابة، وتنتابه حالة تَجَلٍّ، إذْ يرى الله أقرب منه إليه،
ولكنَّه يراه جهرةً، يدخل نوره جلّ جلاله إلى قلبه، فيستحيل في
وجدانه شعلة مصباحٍ لعتمة الأيَّام المقبلة. كان حقًّا متيّمًا
بالبرّيّة يذهب إليها كلَّ يوم تقريبًا، ويسوح في مرتفعات
الجبل وروابيه، ذلك الجبل الذي سطّر في صفحات التاريخ أمجاده،
ومآثره الراسخة. ومحيسن يحسّ بذلك الإرتباط بالأرض، ربَّة
الحُسن التي لا ٱنفصام عنها، ذلك التعلّق الذي لا ٱنعتاق منه،
يقضي طيلة نهاره في الربوع الخضراء التي تحيط بالقرية، ولا
يشبع نهمه منها، يقطف الأزهار والأعشاب البرّيّة المفيدة، وله
خبرة عجيبة في معرفتها، يجمعها ويذهب آخر النهار، فيعطيها
لأمّه التي تبيعها بدورها.
وعندما يسمع صوت نايٍ لراع أثناء تواجده في البرّيّة، فإنَّه
يسرع إليه.
- «أنا حبّك».
ويطلب منه أن يُسمعه، وما إن يسمع أنَّات الناي، حتَّى ترتجف
أشجانه، ويذهل، ويمتقع لونه، ثمَّ يبكي بكاءً مرًّا. وحين
ينتهي اللحن، تُجَلْجِلُ ضحكةٌ عاليةٌ يطلقها، ثمَّ يُقبّل
الراعي، والغنم، والشجر، وكلَّ شيء يصادفه، ويقفز متابعًا قطف
«الزعتر» والأعشاب.
كانت حياته تمضي صافيةً ونقيَّةً، حتّى جاء ذلك اليوم المشؤوم،
يوم ٱجتاح الصهاينة بكلِّ وحشيّتهم بلاده الطهر، وٱنتهكوا تلك
الأرض العذراء. يومها سقط سبعة شهداء، كلّهم من أحبّته،
شيّعتهم القرية بموكب مهيب، لم يكن من عادة محيسن المشاركة في
تشييع، ولم يكن ليهتم لموت أحد، ولكنَّه تابع ذلك الموكب عن
بُعد، وبذهول كُلّيّ. إنتهت مراسم الدفن، وثوى الشهداء في حضن
الأرض البتول، وغادر الناس إلى بيوتهم، تلفّهم الأحزان،
ويلفحهم القهر.
تسلَّل محيسن إلى المقبرة، ثمّ جلس واضعًا رأسه في حِجره. صمت،
ثمَّ أخذ ينشج بصوت، بدأ خافتًا، وٱستمر يعلو رويدًا، حتَّى
تحوّل إلى عويل، فصراخ، وهو يلطم وجهه كالثكالى، وينثر التراب
على رأسه، ثمَّ يحمل حجارة، ويضرب رأسه حتَّى يدمى.
جرّوه جرًّا إلى بيته المتداعي، ولكنَّه غافلهم، وأطلق قدميه
عائدًا إلى المقبرة. بقي فيها ثلاثة أيَّام، قضاها بين نواح
وعويل، وإذا ما أعياه البكاء، دندنَ بصوتٍ شجيٍّ مواويلَ
طوالًا، ولكنَّها كالطلاسم. ولا تكاد يده تمسّ الطعام الذي
يقدّمه الأطفال.
بعدها، أصبحت زيارة المقبرة فجر كلّ يوم من طقوسه التي لا
يثنيه عنها حَرٌّ ولا قَرٌّ. يبقى فيها، حتَّى ترسل له الشمس
زغب أشعتها، فيغادرها، مثقلًا بالجراح، هائمًا في البراري.
ومنذ ذلك اليوم المشؤوم، طرأت تغييرات كثيرة في شخصيّة محيسن،
فقد ذبل عوده، وٱزدادت عيناه جحوظًا، وتراكمت الأوساخ على جسده
وثيابه البالية. أخذت تنتابه حالات مريبة، لم يعهدها من قبل؛
فيوم تركبه حالة حزن، لا يعرف لها فكاكًا، فيبقى في كآبة قاتلة؛
ويوم يتلبّسه ذعر مفترس، تراه خائفًا مذعورًا، يترقّب، وكأنَّ
كابوسًا يشدُّ على خناقه؛ ويوم تراه يركض في أزقة القرية
وشوارعها، يصرخ ويعربد من دون أن يتمكّن أحدٌ من أن يفكَّ
حرفًا واحدًا ممَّا يتلفّظه سوى كلمة واحدة تتردَّد من آونة
إلى أخرى: «يا صهاينة». لكنْ يَسْتَشِفُّ المرءُ من إحتقان
وجهه، وإشارات يديه، والبصاق الذي ينطلق من فمه كالقذائف أنه
يتهدّد ويتوعَّد، ويظنُّ السامع أنَّه يشتم، وهو الذي لا يعرف
معنى الشتيمة، ولا يحفظ كلمة بذيئة واحدة.
يبدو أنَّ محيسن اكتشف لأوّل مرّة أنْ لا غِنى له عن الكُره،
فإنَّ مجرّد وجود الصهاينة في هذا العالَم التعيس سبب كافٍ لأنْ
تَمْتَلِىءَ الدنيا بالفسق والفجور، ولأن يَمْتَلِىءَ الكون
بالحقد والكراهيَّة، فكيف لمحيسن أن لا يتفجّر حقدًا وكراهيّة،
وهو يرى الصهاينة يغتصبون أرضه الحنون، ويمارسون عليها أبشع
وحشيّة يمكن أن يعرفها التاريخ، وأقذر أساليب يعجز عنها الوصف،
وتستحي منها الداعرة البذيئة؟! يراهم يسومون أهلها عذابًا، لا
يستطيع أن يمارسه أحطُّ خلق الله نذالةً وخِسّةً، فكيف لمحيسن
أن لا يتغيّر تغيّرًا جذريًّا، وأنْ لا تنقلبَ شخصيّتُهُ رأساً
على عقب؟!
كانت رؤية الصهيوني تسبّب له صدمةً عصبيّةً مخيفةً، فيزأر،
ويرفس برجليه، ويخبط رأسه، ويضرب الأرض بعنف، وكأنَّه يريد
منها أن تنشق وتبتلعه، ولا يحصد أخيرًا سوى الدماء التي تسيل
من يديه ورأسه.
تهمس إحدى الفتيات لصويحباتها: يا لهذا الزمن الرقيع! لقد
تغيّر محيسن كثيرًا، يا حسرتي!
ومحيسن نفسه لم يعرف نفسه، بل أنكرها بشدّة، وتنكّر لأيام الحبّ
العذبة. يا ضياعة الزمن! قلَّما يكترث بهنّ الآن. تمرّ به
الفاتنة، فلا تترك في إحساسه سوى ومضة تشبه طعنة خاطفة، تنفجر
دمامل قلبه، ويغرقه القيح.
ولكنَّه بينما كان جالسًا ذات يومٍ في المقبرة التي تردّد صوته
الشجيّ النائح بالمواويل، أقبلت فتاة باسقة القامة، يجلّلها
السواد، ولا يظهر منها سوى وجهها الوضّاح، فتبدو مثل ليلة
مُقمرة، لم يأبه بها في بادئ الأمر، وٱستمرّ صوته يُرسل
ألحانًا حزينة مُبهمة، أخذت تمتزج بنهنهة الفتاة وصوت بكائها
الخافت، وتشكّل معزوفة رائعة. إلتفت إليها، فرآها تجثو قرب أحد
القبور، وتحني ظهرها كصنوبرة أتعبتها الرياح العتيَّة.
فجأة، أحسّ بنصل خنجر يغوص في أعماق قلبه، فٱنتفض واقفًا، وجلس
في مقابلها. كان وجهها -رغم الحُسن- يشبه ضحكة طفل، إذْ تجمعت
كلّ خضرة جبل عامل الكثيفة في عينيها، ودموعها روافد نهره.
واصل موّاله، وقد تأثّر صوته تأثّرًا بالغًا، فأصبح رخيمًا
مؤثّرًا، ورمت إليه بطرفها مشفقة، ولم تفهم من موّاله سوى
الآهات الطويلة والأُوف، فٱزداد نَحِيبُهَا.
قُبيل الشروق، عزم على مغادرة المقبرة، فٱقترب منها، ورطن
بكلمات غامضة، طلبًا لمواساتها، فشكرته.
- كيف صحّتك يا محيسن؟ هل أنت بخير؟
صمت، ورفع بصره نحو السماء.
قالت:
- لماذا تأتي إلى هنا كلّ يوم؟
سقط رأسه على صدره، رفس برجله، وغادر المقبرة.. لم يستقر في
مكان، بل ظلّ يدور هائمًا حتَّى آذان المغرب، فوجد نفسه في
بيتها جالسًا في باحة الدار، وما إن لمحها حتَّى صرخ:
- «لطف أنا حبّك».
لم تضحك كما تفعل غيرها، وإنّما نظرت إليه بحزن، وعادت إلى
المطبخ. وفي اليوم التالي، وجد نفسه يجلب لها كلّ ما جمعه في
البرّيّة من زهور وأعشاب، فطلبت منه أن يأخذها إلى أمّه، فلم
يغضب.
وبقي مدّة طويلة يتردّد بشكل يوميّ على بيتها، وهي تتجنّب
إغضابه، فلا تمازحه أو تسخر منه مثلما يفعل غيرها، ولا تسخّره
في أيّ عمل، أو تحاول أن تمسّ شعوره. كلّ ما فعلته هو أنَّها
طلبت إليه أن يغيّر ثيابه ويغتسل، وأعطته منديلًا ليمسح لعابه،
وكان فرحًا بكل هذا. ومرَّة سَألَتْهُ:
- لماذا تحبّني؟ فأحنى رأسه، ولم يجب.
وفي مرة أخرى سألته:
- لماذا لا تعمل وتكسب مثل الرجال؟ فنكس رأسه طويلًا، ثمَّ رفس
برجله، وغادر البيت راكضًا، فظنَّت أنَّه غَضِبَ منها، ولن
يعود. ولكنَّه في اليوم التالي كان يقف وسط الشارع يحمل عصيًا،
ويضع على رأسه قبّعة من قشٍّ، ويلوّح بيده للسيارات. لقد
ٱستنسب عمل شرطيّ المرور، يبقى ساعات ينظّم السير، ثمَّ يعود
إلى «لطف»، فيؤدّي لها التحيّة العسكريّة، ويحدّثها عن متاعب
العمل الجديد، ومشاكسة السائقين وأذيّتهم له.
كان محيسن واقفًا في وسط الشارع، إذ رأى على البُعد دورية
اسرائيلية تقترب، فَجَمُدَ في مكانه، وأخذ يرتَجِفُ كقصبةٍ في
مهبّ الريح، وٱحتقن وجهَُهُ بغضبٍ شديدٍ. كانت الدوريَّة قد
أصبحت على بُعد أمتارٍ منه، فرفع يديه صارخًا:
- هوب.. هوب.. إسرائيل.. الجع.. لولا.
- هوب.. هوب.. إسرائيل.. كش بلا.
ذُعِرَ الصهاينة، وٱنتابهم الرعب كالعادة، فأخذوا يطلقون النار
في الهواء ترهيباً، ولكنَّه بَقِيَ جامدًا في مكانه. تراكضت
الناس هلعًا، ولمَّا شاهد الناس تركض، ركض هو أيضًا. طاردته
الدبابات، والجنود على ظهرها يطلقون النار، ويصرخون به أن يقف،
إلَّا أنَّه كان يركض أمامهم صارخًا:
- الله اتبل.. الله اتبل.
ثمَّ يقف، ويرفع يده جاعلًا من الإبهام والسبابة شكل المسدّس.
طق طا.. طق طا.. طاطا.. ثمَّ يهرب.
الصهاينة يطلبون النجدة، والدّبَابات تطوّق القرية، وهناك
طائرة عموديَّة تجوب سماء القرية، وبقيت المطاردة بالدبابات
مستمرَّة.
يلجأ محيسن إلى الحسينيَّة، يتراكض الصهاينة لتطويقها.
يصعد محيسن إلى سطحها، فيرميهم بكلّ ما يقع تحت يده، بالكراسي،
وبالحديد، وبالحجارة، وهو يصرخ:
- الله أتبل.. الله أتبل.. الله أتبل.
والرصاص يأتي من كلّ الجهات، فتصنع زخّاتُها غيمة.
- خيبل خيبل يا يهود.. خيبل خيبل يا يهود.
ثمّ يسبح محيسن في بركة دمه، ليكتشف الحياة.
• الجزء الثالث من سلسلة «قلم رصاص» / موسوعة نصر لأدب
المقاومة / إصدار الجمعية اللبنانية للفنون – رسالات.
|
مقابلة صحفيَّة - حكايا
عودة |
بقلم: ماجدة اسماعيل ريا
إمتشقْتُ قلمي، وحملت بِيض أوراقي، وخطوْتُ نحو تلك البوّابة
الزرقاء الكبيرة المؤدّية إلى مَمَرِّ عريض، يجعل حديقة المنزل
شطريْنِ متوازييْنِ.
رأسي مثقل بحشدٍ من الأسئلة الحيرى التي تبحث عن أجوبة، فقد
حضرْتُ إلى هنا، لأُجري مقابلة مع أمّ ياسر، الشهيد الذي سقط
في العمليَّة النوعيَّة الأخيرة، مدفوعة بشوق كبير للاستماع
إلى أيّة كلمة تفوه بها! ومع ذلك، كانت خطواتي بطيئة، فتساءلت
في نفسي: «هل هو التهيّب من لقاء أم الشهيد، أم هي رائحة
التراب التي تفوح من الأرض، فتخترق عظامي؟ أم لأن الإنسان من
تراب، وإلى التراب يعود؟ لست أدري. أخذت نفسًا عميقًا، حتّى
ٱمتلأت رئتاي، وتابعت التقدم بٱتجاه الباب الرئيسي للمنزل.
السماء ملبّدة بالغيوم الداكنة، لم تفرغ كلَّ حمولتها من المطر،
وقد لفتتني تلك القطرات التي لا زالت تزيّن الأغصان العارية،
كأنَّها دموع الندى. وسنديانة عتيقة، تنتصب بكلِّ شموخ قرب
الجدار، وقد زاد المطر ٱخضرارها توهّجًا، حتَّى بدت كجوهرة
خضراء.
تعانقت ألوان الشتاء في هذه الحديقة، وأكسبها كانون لونَ النار،
بٱستثناء شجيرة منها، أبت إلا أن تبقى في ألق، إذْ تفتّحت
ورودها نديّة بلونها الزهريّ الذي يتحدّى قسوة البرد.
إستغرق منّي هذا الممرُّ القصيرُ بضع دقائق. وصلت أخيرًا إلى
الباب، نقرت نقرات خفيفة، فٱنفتح أمامي، وظهرت منه صبيّة صغيرة،
قادتني إلى حيث تجلس والدتها.
شعرْتُ بالرهبة من جوَّ تلك الغرفة. أتراها ليست كباقي غرف
الجلوس؟ «مقاعد أنيقة تكشف عن ذوقٍ رفيع، وديكور رائع، بالرغم
من بساطته، يجعل النفس في حالة سكون غريب. لا، ليس هذا هو
السبب بالتأكيد، فربما يكون مبعثه تلك المرأة التي وقفت
تستقبلني. كانت في العقد الخامس من العمر. وبدأت بعض التجاعيد
الخفيفة تتسرب إلى خطوط وجهها، ولكنّها لم تمنعْهُ من أن يشعَّ
نوراً، يجعل الناظر إليها منجذبًا إلى تأمّل قسماته.
بعد السلام والتحية، جلست قبالتها، دوّنت كلّ كلمة تَلَفَّظَتْ
بها. وأنا أحاول أن أنقل على أوراقي بعضاً من شغفها وهي تتحدث
عن الذي طالما أحبّته، ولا زال يسكن فؤادها.
وفي الختام، كان السؤال: «ما هي أعزّ أمنية لديك الآن؟»
دمعت عيناها، وبصوت أجشّ جعل القلم يرتعش في يدي، قالت: «أتمنَّى
أن أذهب إلى المكان الذي ٱستشهد فيه، وأزرع وردةً هناك».
لم أستطع أن أمسك دمعتين سالتا على وجنتيَّ، وأنا أردّد: «أتمنى
من الله أن يحقّق لك أمنيتك هذه عندما تتحرّر الأرض».
بزغ فجر الخامس والعشرين من أيار عام 2000، محمّلًا بعبق أريج
الإنتصار والتحرير، فقد دُحِرَ العدو الإسرائيلي، وٱنسحبت
فلولُهُ من معظم أراضي الجنوب اللبناني.
الناس يتدافعون بٱتجاه الحلم، كل يريد أن يبارك أنفاسَهُ
بتنشّق الهواء الذي حرم منه طويلًا.
لم أنسَ أمنيّة تلك المرأة، وقرّرت أن أشهد تحقيقها. وكان
المعنيون في المقاومة اتخذوا كل الترتيباتِ اللَّازمةَ لنقل أم
ياسر إلى مكان استشهاده الواقع في منطقة وعرة يصعب الوصول
إليها.
وَقَفْتُ أمام تلك الدار مرّة أخرى، وكان الخبر قد سبقني إليها.
فها هي المرأة الخمسينيّة بكلّ وقارها تنتظر في الخارج بفارغ
الصبر تحقيق الأمنيّة التي حامت سنوات في سماء قلبها.. أرض
الحديقة تموج بالإخضرار، وقد ٱنبعث عطرُ ورودِها المضمّخة بلون
العيد في كلّ مكان، فٱستدفأت بأشعة الشمس، التي ٱنعكست أنوار
فرح، تبلسم الجراحات، وتُشعر الناظر إليها بنبض الحياة.
السنديانة العتيقة لا زالت على شموخها، ترتفع من داخلها زقزقات
وأغاريد، تردّد حكايات النصر مع فرح الربيع.
تلاقت عيوننا. إبتسمْتُ، فبادلتني الإبتسامة، وما لبثت أن
ٱحتضنتني بحرارة، ثمَّ نظرَتْ في وجهي، وهي تسأل بصوت أجشّ: «جئْتِ
لتشهديْ أمنيتي تتحقق ؟!».
أومأْتُ برأسي علامة الإيجاب. ٱنطلقنا معًا في السيارة التي
كانت تنتظرنا عند المدخل.
السيارات تسير في قوافل نحو الجنوب، حيث خرجت البلدات والقرى
عن آخرها في عرس التحرير. الناس في الطرقات والساحات يعقدون
حلقات الدبكة. والنساء أطلقن العنان للزغاريد والأهازيج
والعتابا.
من حين إلى آخر، كنت أسترق النظر إلى وجه المرأة. كانت هي
الأخرى تراقب ما يجري خارج السيارة، فتشعّ عيناها نوراً يضيء
قلبها.
بدأت السيارة تتنحّى عن الطريق الرئيسي، لتدخل في طرقات
فرعيَّة، حتَّى وصلْنَا بعد طول مسير إلى مقصدنا.
توقّفت السيارة. ترجّلت «أمُّ ياسر». عاينت المكان، فجثت بشكلٍ
تلقائيّ على ركبتَيْهَا. مدّت يديها إلى التراب، قبضت بهما
حفنة، رفعتها إلى وجهها. شمّتها. أخذت نفساً عميقًا، وصاحت: «لا
زالت رائحتك هنا يا ولدي. أرى روحك وأرواح الشهداء تفتح بوابات
التحرير، تتقدّم الناس. تهلّل وتُكبّر. أشعر أن عرسكم اليوم
أكبر من عرسنا، وفرحتكم أكبر من فرحتنا. أنتم الأحياء، وأنتم
الشامخون..».
كانت تتلمّس بحنان تراب المكان الذي منه ارتفع إلى الملكوت.
تحتضن صورته حيناً وتقبّلها أحيانًا أخرى.
كان قلبي ينبض بعنف، وحواسي لا تكفيني لإدراك ما يجري. بقينا
نراقب حركتها العفويَّة، وكلماتها التي ٱنطلقت دونما تحضير،
لتفيض بمشاعر جيّاشة.
أمسكَتْ شتلةَ الوردِ التي أحضرتْهَا مَعَهَا، ثمَّ غرستْها في
تلك البقعة من الأرض تخليداً لذكرى حبيب زرع جسده في ثراها
شهيداً.
|
ميم – دال - حكايا
عودة |
بقلم: الشيخ فضل عباس مخدر
- ماذا يفعل؟
- لست أدري، أظنّه يتحدّث إليها.
- ماذا؟!
- نعم، أظنّه يتحدّث إلى المقنبلة (1).
- هل تسخر منّي يا نعيم؟
- لا، أبدًا، هل تظنّ أنَّ الموقف يحتمل السخرية؟!
- إذًا، دعنا ننسحب!
- لا يمكن.
- لماذا؟!
- لقد أضاع حسين حلقة المقنبلة، وما زال ممسكًا بالأمّان.
- وهل يحتمل إصبعه ذلك؟ أين الحلقة؟ كيف ضاعت؟
- لست أدري، لا تصرخ هكذا.. كلُّ ما في الأمر أنّ الدوريَّة
مرّت بسرعة غير معهودة، فلم يتمكن من إلقائها على الآليَّة
الأولى، وقد أحسن الصنع، إذ لم يضرب الثانية، وإلَّا حصدتْنَا
الأولى بالرصاص.
- إذًا؟
- لا شيء، سننتظر رجوعهما.
- هل يحتمل إصبع حسين ساعة كاملة؟
- لست أدري، كان الله بعونه، فلقد طَرَدَنَا من حوله، وأظنّه
يتحدّث إليها الآن.
- لا تستفزّني يا نعيم، كيف يتحدّث إلى المقنبلة؟
- يا أخي، إذهب وﭐسمع.
نظرْتُ من حولي يمينًا وشمالًا، وإذا بالشباب كلّ في موقعه،
والموقف لا نُحْسَدُ عليه. تسلَّلت من خلف حائط محطّة البنزين
القابعة في عين القنطرة بين العاقبية والصرفند على الطريق
الساحليّ من الجنوب. وبهدوء تامٍّ، دخلت إلى تلك الزاوية من
بستان الليمون، ولكنّني لم أرَ أشجار الليمون مثلما رأيتها في
ذلك اليوم، ولم أَشْتَمَّ رائحتها كما شممْتُهَا في تلك اللحظة.
إقتربْتُ شيئًا فشيئًا، وصدى يباس الوريقات المتكسّر تحت
أقدامي يختلط بنبضات قلبي، وكأنَّ ضجيجًا من سنابك خيل التاريخ
تجمَّع بين صدغيّ، يدقُّ الأوردة بالدم المنسلّ إلى دماغي، وقد
أحسست بأنَّ مقبض بندقيّتي يتهشّم بين ضغط أصابعي، لكأنّ
المعركة التي فاتت منذ دقائق ﭐلتهبت من جديد، ولكنْ بين أضلعي
وما تبقّى من لهاثي وحسيس أنفاسي، وأنا أتخيّل أنَّ حسينًا
عبوةٌ ناسفةٌ من دون توقيت، ستنفجر في أيّة لحظةٍ، فيتبعثر
أشلاءً على جسدي وحبّات البرتقال المندّى الراقص على أعتاب
جفوني.
أخذت أحاول أن ألتقط ﭐرتعاد أطرافي وبعض رئتيّ، وأسترق السمع،
وأمعن في حديثه معها، وهو يقول:
يا صغيرتي، يا حلوتي، لم أكن أعرف أنّني أعشقك إلى هذا الحدّ،
ولم أعتقدْ أنَّ الحبَّ لذيذ بهذا القدر. لقد أحببْتُ يومًا
بنت جارتنا، وكتمت الأمر، إذْ لم أخبر أحدًا عنها، كي لا
يقولوا: «لا تفعل، لست بعمر الحبّ»، ولكنّني أشعر معك اليوم
بأمر آخر، وعمر آخر، ولحظة غرام، لا أخشى فيها لومًا، ولا حتّى
عتابًا. يا صغيرتي أنا أفخر بك وأصدح بالأمر، فلا خجل بعد
اليوم، إذْ لم أَرَكِ إلَّا بالأمس، وها أنا أحتضن عنقك بملء
قلبي، وهيامي فاق عشّاق الدهر.
في لحظة سكون، إنقطع بها صوت السيّارات تسلَّل ناظرايَ من بين
أغصان الليمون وعبق أشجارها، فتأمّلت وجهه، ورأيت دموعًا تجري
على وجنتيه، وهو يبدّل إصبعه من على فَمِ المقنبلة بإصبع يده
الأخرى، دبت رجفة في قلبي وروحي وضلوعي معًا، وأحسست بعضلات
وجهي كأنَّما ستتمزّق لشدّة ﭐنكماشي على نفسي، وإذا به يقبّلها،
ويقول:
يا حبيبتي، قد آن أوان قطافنا معًا، سيرجع أبناء الأبالسة
هؤلاء قريبًا، وسنأخذ منهم كلَّ مأخذ، سندوي معًا، وليسمع كلُّ
الخلق ممَّن رحلوا وممَّن ينتظرون صوتَنَا وأُغنيةَ أحلامنا
ورقصة مجدنا.
إن شئتِ عدم ﭐنتظارهم، وأردتِ أن تصدحي بعشقنا الآن، فليكن،
فكفاني أنّني أرى السماءَ قد شرّعت أبوابها، وعيونَ الحور قد
حدّقت فيّ، ويا لَروعةِ رقص الملائكة!
حبيبتي.. حبيبتي، فليكن ما يكون، تعالي إلى صدري الحنون،
ضمّيني كما أضمك، عانقيني مثل معانقتي لك، وَلْيَلِدَّ الجنون.
صغيرتي، ما أحلى لقاءنا! وما أحلى أن تكوني عنيدةً!َأَبَيْتِ
أن نعود بلا قطاف، سنقطف ما تريدين.
وفي لحظة، جاء الهدير، وعلت أصوات جَنازير الآليّات من بعيد.
عدتُ إلى نفسي، فأدركت واقعي، وأين نحن وكيف كنَّا وما علينا
أن نفعل.. عُدْتُ أدراجي إلى موقعي بسرعة البرق، ومن دون أن
يشعر، وقد كان لحديثه مع معشوقته أثرٌ في قلبي، وأنا أسمع صوت
المجنزرات يقترب حتّى غدا في داخل أذنيّ، وكانت قدماي تمشيان
فوق الهواء من دون حسيسس. وما إن نزلْتُ من أبراج عنفوانه إلى
أرض زاويتي، وأدرْتُ وجهي تجاهه، حتّى دوّى الصوتان معًا: الله
أكبر.. والإنفجار.
• الجزء الرابع من سلسلة «قلم رصاص» / موسوعة نصر لأدب
المقاومة / إصدار الجمعية اللبنانية للفنون – رسالات.
1- المقنبلة: نوع من القنابل التي تستخدم في ضرب الآليات
الكبيرة، وتعرف أيضاً بـ(ميم – دال).
2- يلدّ: يشتدّ ويختصم.
|
فَتَّةُ خُبْزٍ - حكايا
عودة |
بقلم : حسين علي منصور
عصر يوم الإثنين، في أواخر شهر أيَّار، كان عليّ وأحمد وحمزة يرتاحون تحت أشجار
الزيتون في أحد الكروم الواقعة في خراج بلدة «عيتيت»، بعد أن عادوا من مهمّة قد
أنجزوها.
كانوا قد اختلسوا النظر إلى بلدة «حانين» المسبيّة، ومرّغوا أجسامهم بأطراف ثوبها،
وغبار ترابها، ثمَّ جلسوا هنا في هذا الكرم، يعيشون الحنين، ويكتبون الرسائل
المخفيّة للأرض التي تنشّقوا رائحتها، و«للزعتر» الذي لاقاهم بزغاريده، ولِبُحَّةِ
حفيف الشجر وغصته؛ لأنَّه لم يأنس بهم طويلًا.
أسند عليٌّ ظهره إلى إحدى الأشجار، ثمَّ مدّ رجليه، ووضع كفًّا على كفٍّ في حضنه،
وانصاع يتأمّل المكان، وينظر إلى التلّة التي تقابله من جهة الشرق، فقد كانت «حانين»
تغيب وراءها.
لاحظ عليٌّ صَفَّيْنِ من النمل، يتحرّك كلُّ واحدٍ منهما بـاتجاهٍ معاكس للآخر، إذْ
يمتدّ الصفّ الأولّ من جدار الحجارة المرصوفة فوق بعضها، متوجّهًا إلى ثقب قريبٍ
منه في الأرض، ويخرج الصفّ الآخر من الثقب، متوجّهًا نحو الجدار، ولكنَّ جميع أفراد
الصفّين تدخلُ وتخرج من غير أن تحملَ معها شيئًا.
غيّر عليٌّ وضعيَّة جلوسه، فتربّع في مكانه، وأخذ يتساءل: لِمَ يعود النمل إلى
الثقب خالي الوفاض، على الرغم من وجود القشّ والورق وغير ذلك؟ لَفَتَهُ هذا الأمر،
وأثار انتباهه توقُّفُ بعض النملات واقترابها من بعضها، حيث أخذت تتلامس، وكأنَّ كلَّ
واحدة تداعب الأخرى، ثمَّ تعود إلى مكانها ومجموعتها التي مالت عنها.
لقد تذكّر أنّ في جعبته كسرة خبر، فمدّ يده إليها، ثمَّ أخرجها، وأخذ يفركها بيديه،
وقد بدأ يرمي ذلك الفتات الصغير إلى النمل.
توقَّف النمل عن الحركة عندما لامست تلك الفُتاتات الأرض، ثمَّ ما لبثت بعض النملات
أن اقتربت منها، وبدأت تتحسّسها بأيديها وأرجلها، وتقلبها، ثمَّ تلتصق بها من دون
حركة، وكأنّها تشمّها، ثمَّ تقبل عليها، فتحملها بفكّيها، وتذهب بها نحو الثقب،
وتختفي في داخله.
كان عليٌّ يراقب ما يحصل بدهشة وفرح، ويرى كيف يسارع النمل إلى التقاط فتاتِ
كََسْرَةِ الخبز؟ وقد ذهب عنه الملل والضجر، ودبّ فيه نشاط مذهل، وحصل على الزاد
الذي كان يبحث عنه من غير عناء أو تعب.
يا إلهي! هناك أمر عجيب آخر يحدث. لقد امتنع بقيّة النمل عن التوجّه نحو الجدار،
وها هو يجتمع في المكان الذي رمى فيه عليٌّ فتات الخبز. إنَّه يتحرّك بشكل مختلف،
فيتهامس، ويتلامس مع بعضه البعض بسرعة مذهلة، وكأنَّه ينتظر من عليّ أن يقدَّم له
المزيد.
كان أحمد وحمزة يراقبان هذا المشهد، وقد لاحظا كيف التقط النمل أثر بريق المحبّة في
فتات الخبز الذي رماه عليّ عليه؟ وكان ذلك أشبه بمناغاة طفل لأمّه، أو حقل لزرعه،
أو وردة لنداها. إنَّه شيء يشبه الخروج من سجن الأشياء إلى فضاء الحرية، حيث نكتشف
العلاقات والروابط، ونذوب فيها.
وعاد عليٌّ، ودفع ما تبقّى في يده من فتاتٍ إلى النمل، واستخدم النملُ لغتَهُ التي
لا نسمعها، ولكنَّنا ندركها بوضوح من خلال الحركات التي تمليها فطرته. حمل الفتات،
واندفع به، حتَّى اختفى داخل الثقب.
- أحمد: يا سبحان الله! هذه الفطرة لو طردْنَاهَا من عالمنا وحياتنا، فلسوف
تطردُنَا من عالمها وحياتها، وتحتجبُ أسرارها، فلا تجد من يفتّش عنها.
- عليّ: إنَّه الإختيار يا صاحبيَّ، فهو الذي يحدّد المصير، ويحدّد الطموح.
الإختيار جعلني أخرق سكون اللغات، وأبني علاقة مع هذا النمل بقليل من الفتات.
- حمزة: لولا حرارة القلوب، لدسْنَا هذا النمل بأقدامنا، وسحقْنَا أحلامها وحياتها
من دون رحمة، ومن غير أن نحسّ بوجودها.
- عليّ: هيَّا بنا، إنَّ الإخوان ينتظرون حضورنا.
في عصر يوم الجمعة من شهر آب، عاد حمزة وأحمد إلى كرم الزيتون في «عيتيت» من
مَهَمَّةٍ أنجزاها، وكانا قد اختلسا النظر إلى بلدة «رشاف»، ومرّغا جسميهما بأطراف
ثوبها.
أسند حمزة ظهره إلى إحدى الأشجار، وتربّع في مكانه، ثمَّ أخرج من جعبته كسرة خبز.
راح يفركها بيديه، ثمَّ ألقى الفتات على الأرض، فـاجتمعَ النملُ عليها، واشتعلَتْ
حرارةُ القلوب.
• الجزء الثالث من سلسلة «قلم رصاص» / موسوعة نصر لأدب المقاومة / إصدار الجمعية
اللبنانية للفنون – رسالات.
|